العلم بما يختلج النفوس والقلوب
والمقصود بهذه الخاصية القدرة على اختراق نفوس وقلوب الصحابة لمعرفة العلل والأمراض العالقة بها، وقد أثبتت السنة النبوية أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم كان صاحب هذه المرتبة. ففي إحدى خطبه قال صلى الله عليه وسلم - وقد أَتَاه مَالٌ فأعْطَى قَوْمًا ومَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أنَّهُمْ عَتَبُوا -، فَقالَ: "إنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وأَدَعُ الرَّجُلَ، والذي أدَعُ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الذي أُعْطِي، أُعْطِي أقْوَامًا لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ والهَلَعِ، وأَكِلُ أقْوَامًا إلى ما جَعَلَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى والخَيْرِ منهمْ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ، فَقالَ عَمْرٌو: ما أُحِبُّ أنَّ لي بكَلِمَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ".1
فقد بيّن صلى الله عليه وسلم لصحابته أنه على علم بأحوال نفوسهم، وتلونات قلوبهم، عندما أشار إلى عمرو بن تغلب صاحب القلب الخير الغني من باب التلويح بذلك.
ولقد كان الصحابة يدركون ويشعرون بأنه صلى الله عليه وسلم على علم بذلك فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه : " أللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بكَبِدِي علَى الأرْضِ مِنَ الجُوعِ، وإنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ علَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، ولقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا علَى طَرِيقِهِمُ الذي يَخْرُجُونَ منه، فَمَرَّ أبو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عن آيَةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ، ما سَأَلْتُهُ إلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ ولَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عن آيَةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ، ما سَأَلْتُهُ إلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بي أبو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وعَرَفَ ما في نَفْسِي وما في وجْهِي..."2
وهذا يدخل من باب الكشف الصحيح الذي أُعطي للرسول صلى الله عليه وسلم، وأهميّته نابعة من اهتمامه صلى الله عليه وسلم وتتبع أحوالهم الظاهرة والباطنة، وهذه هي التربية الكاملة الحقيقيّة، وفيها إثبات لنبوَّتِهِ وأن الله تعالى قد ميَّزه بخوارق ومعجزات لا تكون إلا لمُرسل، فعن وابصة بن معبد الأسدي أ، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "جِئتَ تسألُ عن البِرِّ والإثمِ؟ قُلتُ: نعم، فجَمَع أصابِعَه الثَّلاثَ، فجَعَل يَنكُتُ بها في صدري، ويقولُ: يا وابِصةُ، استَفْتِ قَلْبَك، البِرُّ ما اطمأَنَّت إليه النَّفسُ، واطمأَنَّ إليه القَلبُ، والإثمُ ما حاك في القَلْبِ وترَدَّد في الصَّدْرِ، وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوْك".3
وعن حذيفة بن اليمان، قال : "سألَتني أمِّي مَتى عَهْدُكَ تَعني بالنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقلتُ مالي بِهِ عَهْدٌ منذُ كذا وَكَذا ، فَنالَت منِّي ، فقلتُ لَها : دَعيني آتي النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فأصلِّيَ معَهُ المغربَ ، وأسألُهُ أن يستغفرَ لي ولَكِ ، فأتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فصلَّيتُ معَهُ المغربَ فصلَّى حتَّى صلَّى العشاءَ ، ثمَّ انفتلَ فتَبِعْتُهُ ، فسمِعَ صوتي ، فقالَ : مَن هذا ، حُذَيْفة ؟ قلتُ : نعَم ، قالَ : ما حاجتُكَ غفرَ اللَّهُ لَكَ ولأُمِّكَ ؟ قالَ : إنَّ هذا ملَكٌ لم ينزلِ الأرضَ قطُّ قبلَ اللَّيلةِ استأذنَ ربَّهُ أن يسلِّمَ عليَّ ويبشِّرَني بأنَّ فاطمةَ سيِّدةُ نساءِ أَهْلِ الجنَّةِ وأنَّ الحسَنَ والحُسَيْنَ سيِّدا شبابِ أَهْلِ الجنَّةِ".4
ومثل هذا كثير في السنة الشريفة، وأثره الإيجابي على سلوك الصحابة ظاهر جليّ، إذ أن ذلك يثبت لهم أن المشرف على تزكيتهم وتربيتهم ليس بعيداً عنهم، بل يخوض معهم في ما تختلج به نفوسهم، ولا يحتاج أن يكونوا معه حتى يعلم حوائجهم ومقاصدهم، وهذا الأمر يرفع هممهم إلى أن يذوقوا معنى { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }[ق:16]، فهذا هو المقصد السامي من التزكية وهو التعريف بالله تعالى وبصفاته عن طريق الصحبة.
لقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته أن الله تعالى قد وهبه العلم بمعرفة أحوالهم، والكشف عن أسرارهم من باب وجوب معرفة المُزكي ذلك، ليتمكن من معرفة المرض وإعلام صاحبه به، ليحاربه ويتشافى منه، فعن أنس رضي الله عنه : "أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، عَادَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الفَرْخِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ كُنْتَ تَدْعُو بشيءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إيَّاهُ؟ قالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنْتَ مُعَاقِبِي به في الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيَا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قالَ: فَدَعَا اللَّهَ له، فَشَفَاهُ".5
أنظر إلى هذا الكشف الصحيح والعميق والنافذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ من الصعوبة أن يتوجه نظر الإنسان العادي إلى معرفة السبب الحقيقي الذي جعل الصحابي يفقد قوته ووزنه حتى أصبح كالفرخ، إذ التعليل البسيط المباشر لهذه الحالة أن هذا الصحابي مصاب بمرض عضوي يحتاج معه إلى تغدية منتظمة، وأدوية فعّالة، ورعاية طبيّة - وكان هذا هو ظنّ أهل هذا الرجل ومن يعرفه - فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق العادة فيكشف عن السبب الحقيقي لهذه البحالة، إنه دعاء كان يدعو به هذا الرجل أشرف به على الموت والهلاك: فأرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الذكر والدعاء المحمود، وأعلمه بأنه لا يطيق ولا يتحمل تبعات ما كان يدعو به، لأنه في الحقيقة ادعاء ودعوى للصدق والخوف من لقاء الله، والله أرحم وأرفق، وادعاء ذلك هو من خفي تلونات النفس، وهذا علم جليل يحتاجه المزكي ليحفظ قلوب أصحابه إلى الانجذاب إلى ما لا تُحمد عقباه.
الهوامش
1 - صحيح البخاري، عن عمرو بن تغلب، كتاب الجمعة، باب : ما قال في البخطبة بعد الثناء : أما بعد.
2 - المرجع نفسه، كتاب الرقاق، باب : كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا.
3 - سنن الدرامي، كتاب البيوع، باب : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
4 - سنن الترمذي، كتاب : المناقب، مناقب الحسن والحسين عليهما السلام.
5 - صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب : كراهية الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا.