العلم بمعادن الناس
والمقصود بذلك معرفة أخلاق الناس وطباعهم وسلوكاتهم، فكما أن المعادن فيها النفيس والخسيس فكذلك أخلاق الناس وطباعهم، وهو تشبيه رائع من تشبيهاته صلى الله عليه وسلم إذ قال : «تجِدونَ النَّاسَ معادنَ فخيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقُهوا وتجِدونَ خيرَ النَّاسِ في هذا الأمرِ أكرَهَهم له قبْلَ أنْ يقَعَ فيه وتجِدونَ مِن شرِّ النَّاسِ ذا الوجهَيْنِ الَّذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ».1
ففي هذا الحديث ما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم على علم بأهل الخير وإن كان ظاهر فعلهم كراهية هذا الدين، وما يؤكد ذلك دخول كثير من الصحابة في الإسلام بعد أن كانوا أشدّ الناس حرصاً على مقاومته كأمثال عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد وغيرهما.
والعلم بمعادن الناس ضروري يحتاج إليه المزكي ليميز الخبيث من الطيب، والحسن من القبيح على حقيقته التي تكون خفية، لكي يستطيع أن يصف الدواء الذي يصلح للداء.
ومن الشواهد على علمه صلى الله عليه وسلم بالناس قوله :«إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»2.
فقد شبّه صلى الله عليه وسلم الناس في عدم تحمّل الأذى، والصبر على المكاره، ومخالفة العواءد بالإبل المائة، التي لا توجد فيها إلا راحلة واحدة، وهو الجمل الصبورالقوي الذي يصلحللسفر الطويل، والحمل الثقيل.
وتظهر هذه الخاصيّة كثيراً في أحاديثه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بفضائل الصحابة ومناقبهم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم على علم كبير بأخلاقهم وصلاحهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا . وَإِنَّ أَمِينَنَا ، أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ». وقال صلى الله عليه وسلم : « أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أبو بكرٍ وأَشَدُّهُمْ في أَمْرِ اللهِ عمرُ وأَصْدَقُهُمْ حَياءً عثمانُ».3
وقال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ وضع الحقَّ على لسانِ عمرَ وقلبِه».4
وقال صلى الله عليه وسلم : «ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ من ذي لهجةٍ أصدقَ من أبي ذرٍّ».5
ولما قال صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ، فقال أبو أسيد :ألم تر إن نبي الله خير الأنصار فجعلنا أخيرا؟ فأدرك سعد بن عبادة النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، خير دور الأنصار فجعلنا آخرا. فقال: «أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار».6
فتبيّن كيف أنه صلى الله عليه وسلم على علم بأهل الخير بالترتيب والتتابع وإن كانوا كثيرين، وأنه في حالة التفضيل كيف استطاع أن يطيب خاطر سيد بني ساعدة.
وفي مثل هذا الأمر يقول صلى الله عليه وسلم : « نِعمَ الرَّجلُ أبو بَكْرٍ ، نِعمَ الرَّجلُ عمرُ ، نِعمَ الرَّجلُ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ ، نِعمَ الرَّجلُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ ، نِعمَ الرَّجلُ ثابتُ بنُ قَيسِ بنِ شمَّاسٍ ، نِعمَ الرَّجلُ معاذُ بنُ جبلٍ ، نِعمَ الرَّجلُ معاذُ بنُ عمرِو بنِ الجموحِ»، قال : «وبئس الرجُل فُلَان، وَبِئْسَ الرَّجُل فُلَان حَتَّى عَدَّ سَبْعَة».7
الهوامش
1 - صحيح البخاري. كتاب : المناقب، باب : ما ينهى عن دعوى الجاهلية.
2 - صحيح البخاري. كتاب : الرقاق، باب : رفع الأمانة.
3 - المرجع نفسه. عن أنس بن مالك، كتاب : فضائل الصحابة، باب : مناقب أبو عبيدة بن الجراح.
4 - المرجع نفسه عن أبي ذر الغفاري.
5 - المرجع نفسه عن عبد الله بن عمرو.
6 - المرجع نفسه كتاب : فضائل الصحابة. باب فضل دور بني النجار.
7 - الأدب المفرد للبخاري عن أبي هريرة، باب : من أثنى على صاحبه.