حِرص المُزكِّي على المُزَكَّى
وهو الذي عبّر عنه تعالى بوصفه لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم بقوله : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.1
قيل في تفسير هذا الوصف : "أي على إيمانكم وصلاح شأنكم".
وهذه الصفة تابعة من حيث التصرف إلى علمه صلى الله عليه وسلم بنفوسهم وقلوبهم، فكان صلى الله عليه وسلم أحرص الناس ألّا يجول في قلوبهم ما يقدح في اعتقادهم الحسن في ذاته صلى الله عليه وسلم، وفي الدين الذي أرسل به.
لقد نظر صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع الصحابة الأول نظرة الأب لأبنائه، المحب لهم، والخائف عليهم، المعلم لهم كل ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم.
قال صلى الله عليه وسلم : (إنَّما أنا لَكم مثلُ الوالدِ أعلِّمُكم).
فقد حدث أنَّ صَفِيَّة رضي الله عنها جَاءَتْ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَزُورُهُ وهو مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ، في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ معهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى إذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِن بَابِ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مَرَّ بهِما رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّما علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ نَفَذَا، فَقالَ لهما رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "علَى رِسْلِكُمَا، قالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ! وكَبُرَ عليهما ذلكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما شيئًا".3
فقوله صلى الله عليه وسلم : "خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما.." من حرصه ألا تدخل وسوسة الشيطان قلبَي الرجلين، وذلك لعلمه الواسع بمدخل الشيطان من بني آدم، وما يشهد على هذا تشبيهه صلى الله عليه وسلم سطوة وتسلط الشيطان على الآدميين بمجرى الدم من العروق.
وعن أُبَي بن كعب قال : كُنْتُ في المَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عليه ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: إنَّ هذا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عليه، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فأمَرَهُما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ في نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إذْ كُنْتُ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ما قدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ في صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأنَّما أَنْظُرُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا، فَقالَ لِي: يا أُبَيُّ أُرْسِلَ إلَيَّ أَنِ اقْرَأِ القُرْآنَ علَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ علَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ علَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ علَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ علَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَومٍ يَرْغَبُ إلَيَّ الخَلْقُ كُلُّهُمْ، حتَّى إبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّم).4
لقد جمع هذا الحديث النبوي الشريف من خصائص النبوّة، وكمالات الرسالة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يدع الشك والتكذيب يهدِّمان إيمان صاحبه أُبَي بن كعب رضي الله عنه لعلمه بما يختلج القلوب، ويتسرب إلى النفوس من الوساوس والظنون، واستطاع بهمّته العالية، وسلطانه على بواطن صحابته وسطوته الروحية، أن ينقل هذا الصحابي من حال التكذيب إلى حال اليقين والتحقيق بضربة من يده الشريفة في صدره، وذلك من رحمته صلى الله عليه وسلم بصحابته وحرصه أن تنمو أخلاقهم، ويزيد اعتقادهم وإيمانهم بالرسالة وصاحبها.
وسألت عائشة رضي الله عنها النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الجَدْرِ: (أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قالَ: نَعَمْ. قُلتُ: فَما لهمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ في البَيْتِ؟ قالَ: إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بهِمُ النَّفَقَةُ. قُلتُ: فَما شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قالَ: فَعَلَ ذلكَ قَوْمُكِ؛ لِيُدْخِلُوا مَن شَاؤُوا، ويَمْنَعُوا مَن شَاؤُوا، ولَوْلَا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بالجَاهِلِيَّةِ، فأخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ في البَيْتِ، وأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بالأرْضِ).5
ففي هذه الأحاديث ما يدل على أن المزكي لابدّ أن تكون له رعاية للقلوب، والخوف أن يتسرّب إليها ما يلهب فيها نار الفتن والشكوك.
بل إنه صلى الله عليه وسلم أحرص الناس ألا تزيغ أمته وتهلك فتدخل النار، فقد صوّر صلى الله عليه وسلم هذه الحالة بتمثيل من بديع بيانه، وبراعة بلاغته، فقال صلى الله عليه وسلم : (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ).6
ويظهر حرصه صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأمته ألا يفرض عليها من الأحكام ما يزج بهم في الحرج والمشقّة فكان يَهُم بفعل الشيء ثم يتوقف عنه حتى لا يفرض عليهم.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : (كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ في حُجْرَتِهِ، وجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بصَلَاتِهِ، فأصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بذلكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ معهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بصَلَاتِهِ، صَنَعُوا ذلكَ لَيْلَتَيْنِ - أَوْ ثَلَاثًا - حتَّى إذَا كانَ بَعْدَ ذلكَ، جَلَسَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذلكَ النَّاسُ فَقالَ: إنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ علَيْكُم صَلَاةُ اللَّيْلِ).7
ومثل هذا يتكرر كثيراً في السنة النبويّة الشريفة، وكل ذلك يشهد على علمه بضعف الناس في الاستمرار في التعبد وعدم تحملهم لمشاقه، فكان من رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته، وخشيته عليهم أن توقف عن ذلك العمل حتى لا يفرض عليهم.
وحرصه على صحابته هو نتيجة محبته لهم، والخوف والشفقة عليهم، فلا تزكية لمن لم يكن متخلقاً ومتصفا بالمحبة، إذ هي الدواء لكل العلل، وسفينة الإبحار إلى رحمة الله.
ومن علامات محبة المزكي لأصحابه أن يعظمهم ويذوذ عنهم حتى لا يصلهم مكروه، وذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يقول : (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ).8
والمزكي هو الذي يجتهد ويدعو لأصحابه حتى يدركوا خير الدارين ولا يضيعوا فضل الصحبة، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول : (...اللَّهُمَّ أمْضِ لأصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، ولَا تَرُدَّهُمْ علَى أعْقَابِهِمْ...).9
ومن أمارات المزكي أن يقدم أصحابه في كل خير، فعن أنسن قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه، فقالوا: يا رسول الله: لو شربت"، فقال : "ساقي القوم آخرهم").10
بل لقد بلغت محبته لصحابته أن رعاهم من أول ظهور لهم في هذا العالم، وذلك يوم ولادتهم، فكان يحرص صلى الله عليه وسلم أن يحضر كل ولادة ويسمي صاحبها لكي تكون مباركة، فعن عائشة رضي الله عها قالت : " أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة فلَاَكَهَا ، ثم أدخلها في فمِهِ، فأول ما دخل بطنه ريق الرسول صلى الله عليه وسلم".11
الهوامش
1 - [سورة التوبة - الآية 128]
2 - انظر روح المعاني للألوسيج 10.ص/52. وروح البيانللبروسوي ج3. ص/544
3 - صحيح البخاري عن علي بن الحسينعن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم كتاب : الاعتكاف. باب : هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد.
4 - صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب : بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه.
5 - صحيح البخاري، كتاب الحج، باب : فضل مكة وبنيانها.
6 - صحيح ميلم عن أبي هريرة، كتاب : فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم.
7 - صحيح البخاري، كتاب : الجماعة والإمامة، باب : إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة.
8 - المرجع نفيه. عن أبي سعيد الخدري. كتاب : فضائل الصحابة. باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كنت متخدا خليلا).
9 - المرجع نفسه. عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، كتاب : الجنائز، باب : رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة.
10 - سنن الترمذي. كتاب : الاشربة. باب : ما جاء أن ساقي القوم آخرهم شربا.
11 - صحيح البخاري. كتاب : فضائل الصحابة. مناقب عبد الله بن الزبير.