وَأمَّا الفِكْرَةُ فِي لطائف الصَّنْعَة فَهِيَ مَاء يسْقِي زَرْعَ الْحِكْمَةِ.
الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء وخواصها وأوصافها وأحكامها المطابقة لما في نفس الأمر، وإيقاع الأفعال الاختيارية على وفق الشرع والعقل كما ينبغي، والفكر في لطائف صنع الله تعالى في خلقه، يؤيد ذلك العلم ويقوّيه ويُنمّيه، ويهذِّبُ الأخلاق والأعمال ويسدِّدُها، فلذلك شبّههُ بالماء، والحكمة المودعة في القلب المفطورة فيه بالقوّة، بالزرع، فقال هي ما يسقي زرع الحكمة فإنها تنمو به.
اعلم أن هذه الفكرة إنّما هي لأهل البدايات، وأمّا المتوسِّطون فإنهم يتفكّرون في لطائف التجلِّيات والواردات وأحكامها قال :
وَأما الفِكْرَةُ فِي مَعَاني الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَال فَهِيَ تُسَهِّلُ سُلوكَ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
يعني أنّ الفكرة في معاني الأعمال تؤدّى على أنها منن من الله تعالى عليه، فإن الدّواعي الباعثة عليها واختيارها على الوجه الذي ينبغي، إما من عند الله أو من عنده، فإن كان الأول ثبت المطلوب، وإن كان الثاني فحصول الداعية والاختيار إما باختياره أو باختيار الحقّ، فإما أن يتسلسل وينتهي إلى اختيار الحقّ، والتسلسل باطل فثبت أن يكون باختيار الحقّ، والاختيار انضمام الإرادة إلى القدرة، فالأعمال إنّما هي بقدرة الله وإرادته، واليقين في هذا المقام هو توحيد الأفعال، وصحّة مقام التوكل بفناء أفعال العبد، فقد سهلت الفكرة المذكورة سلوك طريق الحقيقة بفتح باب الفناء.
وأمّا الفكرة في معاني الأحوال فهي النظر في التجلِّيات والواردات التي هي إشراقات أنوار الجلال والجمال على القلب التي هي لوامع توحيد الصفات والذّات، ولا شكّ أنّها تسهل سلوك طريق الحقيقة.
وإنما يتخلص من الفكرة في عين التوحيد بثلاثة أشياء : بمعرفة عجز العقل، وبالإياس من الوقوف على الغاية، وبالاعتصام بحبل التعظيم.
لما عرف عجز العقل عن الوصول إلى عين التوحيد لاحتجابه بتعيُّنه كما ذكر، خلص عن الفكرة فيه وإذا أطلعه الله على عجز العقل عن ذلك أيس من الوقوف على غاية التوحيد بالتفكّر فتَرَكَه، وعلِم عظمة الحقّ عن إدراك العقل وبلوغ الفكر إلى جنابه فاعتصم بحبل التعظيم، وتخلّص عن الفكر فيه لعلمه بعزّته وجلاله.