وَإِنَّمَا تدْرَكُ لَطائِفُ الصَّنَائِع بِثَلَاثَة أَشْيَاء: بِحُسْنِ النّظَرِ فِي مَبَادِئِ المِنَنِ؛ والإجَابَةِ لِدوَاعِي الإشاراتِ؛ وبالخَلاصِ مِن رِقِّ الشَّهَوَاتِ.
النظر في مبادئ المنن هو أن ينظر فيما يتوقف عليه وجوده من الأسباب، وأنّ الله تعالى أوجده عن عدم وخلقه ولم يكن شيئاً، وصوّره في أحسن الصُّور، وجعل له سمعاً وبصراً، ورزقه وربَّاه وأنعم عليه نعماً ظاهرَة وباطنَة ولم يجب عليه شيء من ذلك، بل هي مواهب محضة حتى ينفتح عليه أنوار الصّنع في خلقه ويرى عجائب تركيب خلقه من العظام والعروق والأعصاب وطبقات عينيه وغرائب في أجفانه وأحشائه وجوارحه وأعضائه على حسب ما وقف على بعض أصحاب التشريح، فيجد فيها إشارات لطيفة تدّعي إلى وجوب شكر المنعم وطاعته على وفق ما أمر به فليجب داعيها وليقم بحق عبوديته مخلصاً له الدين حتى يخلص عن رقِّ الشهوات التي زُيِّّنَت له فإنه إذا قام بحقِّه واتقى وصفَّى قلبه عن كدورة الشهوات وظلمتها جعل الله في قلبه نوراً يفرِّق به بين الحق والباطل ويدرك به لطائف الصّنعة ودقائق المنّة، قال الله تعالى : {إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29].
قال : وَإِنَّمَا يُوقَفُ بالفِكْرَةِ عَلى مَرَاتِبِ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ بِثَلَاثَة أَشْيَاء: باستِصحابِ الْعِلْمِ; واتِّهامِ المَرْسومَاتِ; وَمَعْرِفَةِ مَواقع الْغَيْرِ.
الوقوف بالفكر على مراتب الأعمال لا يكون إلّا باستصحاب العلم، فإن العمل إنّما يعرف بالعلم ويجب أن يكون مطابقاً له. والوقوف على مراتب الأحوال إنما يكون باتِّهام المرسومات، أمّا مرسومات الشريعة فبغلبة حكم الحال على حكم العلم، فإنّ التّجلي الشهودي يقدح فيها، لأن الشهود يقتضي الفناء، والعمل بالمرسوم يقتضي الوجود للقيام بالخدمة، وأمّا مرسومات العبد من نعوته وآثاره وعاداته فلأنّها علل يجب أن تُتَّهم عند تجلّي الصفا ت الإلهيّة ولوامع أنوار التوحيد فإنها تمحو الرّسوم والآثار، وبمعرفة مواقع الغير وهي المواقع التي تغلب فيها الغيرة من أحوال السالكين كتعلُّق القلب بالغير في حال المحبَّة كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ*رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}[ص:32-33].وكغيرة إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى : {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}[الأنبياء:57-58] وكحاله في التفويض عند قوله : {نِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}[إبراهيم:37]وكغلبة حال التوحيد على الفتية المؤمنين الذين قال تعالى فيهم : {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}[الكهف:13-14]حيثُ لم يُبالوا بالجبّار والغالي وجبروته وسطوته وقهره إذ قاموا فقالوا : { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14]، غيرةً على ربِّهم أن يُشرك به. وكحال السَّحرة في حوار قول فرعون : {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}[الشعراء:49-50] فإن هذه المواقع إذا اعتبر بها الطالب السالك في أحواله صحَّح بها أحواله وحقّق مراتبها وعَبَر به من مرتبة إلى أعلى.