وهناك عالم الملائكة، وهم أجسام من نور مُطلعة على ما في اللوح من صنوف العلم الإلهي، وما الوحي إلّا أن يتلقى النبي من الملك تعاليم الإله، أما الولي الصوفي فيُلهم العلم إلهاماً دون أن يشهد الملك ، وقد يشهده أحيانا لكن دون أن يسمع منه كلاماً.
وهناك ظاهرة روحية أخرى عُرفت في الإسلام، وهي ظاهرة العروج إلى السماء، التي ذكرها القرآن في الآية الأولى من سورة الإسراء، قال تعالى:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الإسراء:1]ولهذه الظاهرة عروج النبي -صلى الله عليه وسلم - ما يماثلها عند الصوفية، وقد ذُكرت في آثارهم الشعرية والنثرية؛ وهو ما يُسمى عندهم المعراج الروحي في طريق سلوك الصوفية.
كما نجد في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم جانبا تحنثياً تعبُدياً، وما كان يخضع له من مجاهدة روحية وعزلة عن الناس، وتلك هي البذرة الأولى التي نبت منها زهد الزهاد ،وعبادة العباد ، فهناك في ذلك الغار الهادي الوادع، البعيد عن ضجيج الحياة المادية، وعجيج الممعنين في أفانينها، وألوان الترف والنعيم فيها ،كان صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي ، ويسرح طرفه في أرجاء الوجود، متأملاً بعين قلبه في كل ما امتلأ به الكون من آيات صنع الله وعظمته.
كما ينظر المتصوفة إلى الكون بعين النقص، يقول الدمشقي أبو عمرو :«التصوف رؤية الكون بعين النقص ، بل غضه الطرف عن كل ناقص ،ليشاهد من هو منزه عن كل نقص»، ولذلك فالصوفي يهدف إلى سد هذا النقص والبلوغ إلى عالم الكمال والحقيقة المنزهة عن كل نقص، ولا يتسنى للصوفي بلوغ عالم الكمال إلا بالغياب عن عالم الأرض الناقص ،وما دام الأمر كذلك فعليه أن يتحرر من قيود الجسم والدنيا، عن طريق مجاهدة النفس ،وقتل شهواتها ، إذ كلما كانت الروح سجينة في جسدها فمعنى ذلك أنّها ما تزال منفية بعيدة عن الحقائق الروحانية.
قد يقال ما المراد بالنقص الوارد على لسان حال المتصوف في شأن عالم الكون والذي يريد كمال هذا النقص؟ والجواب أن دلالة النقص لا ينبغي أن تحمل وفق سياقها المعجمي التركيبي الذي تعارف عليه أهل اللغة فجسدوا معالمه السياقية والمقامية على حسبي ما تقتضيه طبيعة الاستعمال، بل الأمر يتجاوز المقيد مما اتفق عليه أهل اللغة ليصل إلى ما وراء دلالة النقص؛ فالصوفي يتعامل مع النقص القائم في الكون ليس انطلاقا مما يحتاجه هذا النقص من كمال، بل إن هذا النقص عبارة عن تلكم التساؤلات الوجودية الكونية القائمة في عالم الكون في تلازمه مع عالم الذات؛ وعليه فالصوفي عند إدراكه لتلكم الأسرار الربانية القائمة في عالم الكون وكأنه أدرك ذلكم النقص الذي كان يحدوه من كل مكان وهو يقتحم عالم الحقيقة المطلقة عن طريق السياق الروحي الساري مع عالم الأشياء. فالنقص إذن هو في الكون دليل على ذلكم القبس الرباني الذي يفتحه الله تعالى للذات العارفة قصد التقرب من عالم الحق الذي ُخلقت من أجله.
ثم إنه لما كان الكون يسير وفق عالم المطلق لأن الذي خلقه مطلق وهو الله تعالى وتقدس، اقتضت من العلاقة القائمة بين العارف بالله تعالى والصوفي وعالم الكون أن تسير وفق شرط المطلق؛ فاختار حينها الصوفي هذا النوع من التصور لذاته ومن أجل ذاته؛ فنتج ما سمي فيما بعد بالإنسان الكامل؛ فكان النقص ملزما للكمال عند الصوفي في كثير من مناجاته وتقربه واقترابه من عالم الحق الذي خلق من أجله؛ فظل لزاما سر الكون بنواميسه الداخلية والخارجية يفجر ويفتق كل ما من شأنه أن يجعل الصوفي يطل على عالم النقص وفق فلسفة روحانية تنظر إلى ما وراء النقص لتصل إلى سر النقص الساري مع عالم الحق؛ فالنقص من جهة الذات العارفة الصوفية هو في الأصل بحث عن سرية الكمال القائمة في عالم النقص؛ إذ كيف يُعقل أن نسلم بمبدأ النقص في عالم الكون في الوقت الذي نقر فيه أن الصوفي وهو يتعامل مع عالم الكون يتعامل معه انطلاقا من صفته الإطلاقية القائمة والكائنة فيه من لدن الخبير تعالى وتقدس، وهو الأمر الذي جعل من تصور المتصوفة يطلقون على التعامل مع الكون أنه يحوي على نقص، وهي مراوغة لربّما ظن المتلقي أنّها عبارة عن أفق شامل من الذات الصوفية أن تحوي الكون فتصدر عليه مثل هذه الأحكام.
إن الحل الأنسب والطريق الأقوم والسبيل الأنجع في التعامل مع التصور الصوفي في ما اصطلحوا عليه وآمنوا به هو النظر من وراء الإطلاق مما يخفيه مبدأ اللفظ مما يمكن أن نطلق عليه بمبدأ التعارض الذي يتماشى مع طبيعة المدون الصوفية التي تجاوز المألوف والمعهود لتصل إلى ما لا عهد له في رحاب عالم الحق الذي هو ملزم لذات العارف الصوفي في عالمها الوجودي الكوني.