وقال أبو علي حسن بن محمد الغافقي الصوّاف: كان أبو مدين يقول: الملتفت إلى الكرامة كعابد وثنٍ، فإنه إنما يصلي ليرى كرامة.
وكان رضي الله عنه يقول: رأيت من واصل ستة أشهر، وذكرت بين يديه العقبات السبع، الذي ذكر حجة الإسلام في كتابه «المنهاج» فقال: رأيت من قطعها في سبعين عامًا، قطع كل عقبة منها في عشرة أعوامٍ، ورأيت من قطعها كلها في ساعةٍ واحدة كإبراهيم بن أدهم الذى قطعها في ساعة وجاءه التوفيق من الله.
وحدّث التادلي: عن أبي عبد الله محمد بن خالص عن أبي الربيع المديوني قال: وصل رجلٌ من المكاشفة إلى تلامذة أبي مدين، فأنكر عليهم بعضَ أمورهم، فأعلموا بذلك أبا مدين، فقال لهم: دعوه فإنه سيُسلب ما وهب، فسُلب والعياذُ بالله المكاشفة، وصار كأحد العامة بتغيُّر قلب الشيخ.
وكان رضي الله عنه جعل كتاب الإحياء نُصب عينيه.
وكانت تُقرأ رسالة الأستاذ القشيري رضي الله عنه بين يديه ويفيض عليه من أنواع المعارف ما لا يوجز من العلوم اللَّدنية.
فهو يومًا لما انعقد المجلس فيما حدث عنه الثقاة وأراد القارئ على العادة أن يبدأ بالقراءة، فنظر إليه الشيخ، وقال له: أمهل! ثم التفت إلى رجلٍ وإذا هو آتٍ بنية الاعتراض والانتقاد على الشيخ, فقال له: لم جئت؟ قال له الرجل: جئت لأقتبس من أنوارك, قال له: ما الذى في كمك؟ قال له: المصحف, قال أبو مدين: اخْرِجه، فأخرجه الرجل من كمه, قال له: اقرأ أول سطر, ففتحه وقرأ أول سطر، فإذا فيه مكتوبٌ: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 92]، قال له الشيخ أبو مدين: أما يكفيك هذا؟ فتاب الرجل مما اعتقد, ولما كمل مرغوبه من القراءة على أشياخه، وانفتحت بصيرته, واستنارت سريرته, وكان على بينةٍ من ربه, ومات بعض أشياخه, وانتقل إلى البلاد المشرقية، فلقي بها الأشياخ المقتدى بهم، واقتبس من أنوارهم, واستفاد من زهّادها، وأخذ من أعلام علمائها وأوليائها، ثم إنها عرفته بالشيخِ الماجدِ المعلمِ؛ فصيح اللسان، والقلم راسخ الجنان، والقدم تاج العرفين أبي محمد عبد القادر الجيلاني, فقرأ عليه بالحرم الشريف كثيرًا من الحديث، وألبسه خرقة التصوُّف، وأودعه كثيرًا من أسراره وحلاّه ملابس أنواره.
ويُحكى: إن سيدي أبا مدين كان يفخر بصحبته بسيدي عبد القادر، ويعده من أفضل مشايخه الأكابر, ثم رجع إلى المشرق وأنواره زائدةٌ في الشروق.
وكان يتردّد في إفريقيا, ثم لما كان آخر حاله استقر ببجاية، فحببها الله له.
وقال: إني وجدتها معينة على طلب الحلال.
قال صاحب النجم: كان أبو مدين رحمه الله من أعلام العلماء, وحفَّاظ الحديث، وكانت الفتاوي ترد عليه في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت.
وكان له مجلسُ وعظٍ يتكلّم فيه على الناس من كلِّ جهةٍ، وربّما مرت به الطيور وهو يتكلم فتقف في الهواء, وربما مات بعضها, وربما يموت في مجلسه من أصحاب الحب كثيرٌ.
ويحكى عنه: إنه بلغ عنه في قراءة القرآن إلى سورة: تبارك الملك.
وشيخه سيدي أبي يعزى روى: إنه قرأ إلى آخر سورة الزلزلة فلما بلغ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7،8].
قال: حسبي.
ولما استقر الشيخ ببجاية زارته علماؤها وساداتها وكبارئها, وعرفوا قدره في الحال والعلم والمقال إلا أبا محمد عبد الحق الأشبيلي, وكان مقدمًا في العلم والحديث والوعظ.
وله كتاب: الأحكام الكبرى والصغرى في الحديث, والعاقبة في التذكير وله تآليف حسان لم يصل إلى الشيخ.
وقال: إن كانت العلوم فهي معنا، وإن كان العمل فنحن فيه على الجد.
فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: سِرْ إِلَى أَبِي مَدين، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ. فلما استيقظ قال: سبحان الله! أنا أقرأ القرآن بالسبع، وأحفظ عليها التفسير بتوجيهاته والحديث وغير ذلك, وما هذا؟ فتربّص. فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضًا, فقال مثل مقالته، ثم لما كان الليلة الثالثة رآه فعزم عليه فاستيقظ, وقال: هذا أمرٌ أراد المولى إبرازه، فاتفق أنه التقى بالشيخ الفقيه القاضي الصالح أبي علي عبد الحق المسيلي صاحب التذكرة أيضًا, وغيرها في أصول الدين، وذلك أنهما كانا متصاحبين في الدين والعلم والعمل، ومتآخين على الزهد واليقين واتباع سلف المؤمنين، فاتفق رأيهما على الاجتماع به حتى يسمعا كلامه، وقد كانا يسمعا كلامه، وقد كانا سمعا عنه من غرائب العلوم وعجائب الفهوم وأسرار المعارف من العلم المكنون، وأرادا أن يطلعان على ما عنده.
فذهبا إليه إلى المسجد الذي يجلس فيه مع خواص أصحابه، فدخلا عليه فوجداه يفيض في أمورٍ، ويستخرج الدرر من قيعان البحور، فعلما فضله، وأنهما لم يدركا رتبته فسلَّما وجلسا. فلما تمّ ودَعَا؛ قَاما وسلّما عليه، فقال لهما بديهة: أما هذا؛ فالفقيه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي. وأما هذا؛ فأبو علي المسيلي، فقالا: نعم، فقالا له: بلغنا عنك أنك لم تجاوز سورة تبارك الذي بيده الملك. فقال لهما: هى كانت سورتي، ولو تعديتها لاحترقت، ثم التفت إليهما. وقال لهم بلغةٍ صوفية قيل لي: بي قل، وعلي دل، وأنا الكل. فانفصل مجلسهما وقد عرفا فضله، وقد علما أن لله مواهب لا تسعها المكاسب، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وأتاه حينئذٍ الشيخ عبد الحق بنيَّةٍ خالصةٍ، فلما دخل عليه كاشفه، وقال له: أمرك النبى صلى الله عليه وسلم أن تقرأ عليً القرآن، فسمّى فقرأ الفاتحة حتى ختمها. قال له الشيخ أبو مدين: اقرأها على الوجوه السبع، ثم قال له: فسِّرها لي ففسرها بأتم الوجوه إلى أن بلغ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] ثم قال له الشيخ: لو كنت تستعين بالله لما استعنت بالسلطان والوزير، فتكلَّم أبو محمد كالمستعذر. فقال له الشيخ: إن كنت متعلِّمًا، فاسمع واشتغل بما يعنيك، والزم بيتك فإن الله يكفيك وعن سائر الخلق يغنيك. فقال: صدقت، ففعل.
فرُوي أن الأمير والوزير وردا على بلده فلم يخرج إليهما على ما كان من عادته، فسألا عنه , فتكلم من له غرض, قال: إن عبد الحق تكبّر عليك.
فقال الأمير: العلم يُؤتى إليه ولا يأتي! فزاره في داره.
فصار بعد ذلك أبو محمد إذا دخل على الشيخ أبي مدين؛ يجد من المواهب الربانية والعلوم اللدنية والعجائب والغرائب كما ذكر بعض ذلك ابن العربى الحاتمي المعروف بـ «ابن سراقة».
وحكاية الرؤيا ذكرها أبو زيد عبد الرحمن التنملي الفهري المعروف بـ «الفرمي»، وله كلامٌ في التصوُّف شهير دوّنته الأئمة.