فصل
إذا وصلتَ إلى عالم الفناء اتصل بك تصرف الحق فيك فصار حجرك إكسيراً عزيزاً، و انقلب نحاسك ذهباً إبريزاً، وأودع فيك من أنوار السّر والتوحيد ما تنفى معه كل شرك وتشبيه وتعطيل وتمويه، فتصفو بصفاء التوحيد عن كدورات صفاتك، وتقدس به عن دنس مخالفاتك، فحينئذٍ يُدخلك فى زمرة السالكين و يُسيرُك فى منازل السائرين إلى أن يبلغ إلى أعلا منازل القلب من الرضا والتسليم والتفويض والطمأنينة والسكينة (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ)[الرعد:28].
فصل
إذا وصلت إلى عالم الروح برز لك نعت القدم بتنصيص التخصيص و منشور التشريف من ياء إضافة ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) وهذه إضافة تفضيل القدم على الحدث وكاد هذا التخصيص أن يمحُو عن المحدث سمة الحدث وكاد هذا التشريف أن يصل القدم بالمحدث تنزه القِدم عن الحدث، وتنزه القديم عن المحدث، وجلت الأزلية عن الوصل والفصل، إضافتك إليه إضافة مزية لا إضافة جزئية، إضافتك إليه إضافة خصوصية لا إضافة بعضية، وإضافة قربة لا إضافة نسبة، وإضافة كرم لا إضافة قدم،وهو منزه عن كل إضافة و إن قال ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي )[الحجر:29].
فصل
ليس له " كلّ " فيقال له " بعض " و ليس له "حسن" فيقال له " نوع " تنزَّه عن حقيقة " مِن " و " إلى " و " في " و " على " ؛ ليس له جنسية و لا بعضية فيقال " من " و لا محلية فيقال " في " و ليس له قرار فيقال " على " فهو مقدس عن البداية و النهاية و الظرفية و المحلية .
فصل
وإذا وصلت إلى عالم السر كوشفت بأسرار الغيب و زُفَّت إليك أبكار عرائس الأسرار فى خلوات :" أوليائى تحت قبابي لا يعرفهم غيري " بين توسط ( فَأَوحَى إِلى عَبدِهِ مَا أَوحَى ) من مجلس سر بيني و بين عبدي سر لا يطلع عليه ملك مقرب و لا نبي مرسل، ثم يأتيك ألطاف القدرة بتحفة الحضرة بــــ " ما لا عين رأت و أذن سمعت " ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ )، قرة عين العاشق رؤية وجه محبوبه و معشوقه، والتمتع بالنظر إلى جمال جلاله، يشق لك سمعاً فى قلبك، وبصراً فى لبِّك، فتسمع بغير أذن، وتبصر بغير عين، فلا تسمع إلا من الغيب و لا تبصر إلا من الغيب، فيصير الغيب عندك عيناً و الخبر معاينة، و هو معنى قوله" رأى قلبي ربي " ومفهوم إشارة القدم في متن مصحف المجيد ( أَلَمْ تَرَ إلى رَبـِّـك كيف مد الظل ) فحينئذ يجذبك عنك و يسلبك عنك فتقع فى القبضة فيوصلك إلى أعلى مراتب التوحيد و المعرفة فى أعلى منازل السر و الهمة، ما تقصر العبارة عن التعبير به و تعجز الأسرار عن الإشارة إليه، وهو نهاية الإقدام و ليس وراء عبادته قربة " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فحينئذ : سبحان من لم يجعل طريقاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
ولما علم الحق سبحانه عجز خلقه عن أداء حقِّه فى حقيقة الوحدانية و الفردانية، شهد لنفسه بالحق للحق بقوله تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) .