حكاية
قال عبد اللطيف بن أبي الطاهر بن هبة البغدادي الإمام: حضرت يوما في زاوية الجنيد ببغداد يقال لها: الشونيزية مع جماعة من الصوفية، وبينهم شخص يقال له: محمد الطوسي ومعهم شريف ولي من أولياء الله تعالى فأحضروا قوالا لينشدهم، فأنشدهم يقول:
علاني من صدودك ما علاني * وعاودني هواك كما بدانـي
وأنت ضمنت أنّك لي محـبٌّ* فليتك لم تحول عن الضماني
أليس الله يعلـم أن قـلـبـي*يحبّك أيها القلب اليمـانـي
لقد حكم الزمان عليَّ حـتّـى* أراني في هواك ما أرانـي
لقد أسكنت حبَّكَ في فـؤادي* مكانا ليس يعرفه جنـانـي
كأنّكَ قد حكمت على ضميري* فغيرك لا يمر على لسانـي
فقال الشيخ: إيه، وأنشد أبياتا أخر فقام الشريف الصوفي على رأسه والتفت أذياله على رجليه، وبقي قائما على رأسه إلى أن انتصف الليل، فحمل فإذا به ميت، قلت: فأين هذا الحال الصادق من حال المنكر البعيد غليظ الطبع المنكر المحروم؟! فإنا لله، وإنا إليه راجعون، نعوذ بالله من حالة الطرد، وسوء الحجاب، ونحمده سبحانه على التوفيق والإيمان ونسأله الأمان،آمين.
خاتمة
ارتكاب الصغيرة لا يقدح في الولاية، وإن تكررت ورفعت إلى الحكام لا يعذرون عليها، لأنهم أولى ممن سترت عورته وأقيلت عثرته، قاله الإمام: عز الدين بن عبد السلام.
مسألة
من ارتكب أمرا فيه خلاف لا يعزر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات).1
قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه-: إن الله لا يعذب على فعل اختلف العلماء فيه، ومعلوم من مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة ممن آمن بالله ورسوله.
واختلاف المذاهب رحمة في هذه الأمة، قال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: بعثت بالحنيفية السمحة، قال الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج. أي: ضيق. قال الإمام: عز الدين ابن عبد السلام: إن الله تبارك وتعالى لم يوجب على أحد أن يكون مالكيا ولا شافعيا ولا حنبليا والواجب عليهم اتباع الكتاب والسنة ومن اقتدى بقول عالم فقد سقط عنه الملام، والسلام.
وقد فتح الله بوارد ظريف على المشرب الشريف وهو :
لا تحسبوا أن الآلات*عن هزل نفس من غفلات
الهزل جد للعارف*بالكشف يعنى العارف
فافهم تشاهد اللطائف*تجلى لفهمك بالغمات
لا تحسبوا أن الآلات*عن هزل نفس من غفلات
اسمع بقلبك لا بأذنك*وافنا وافرغ من أنك
فإن ترح فإني عنك*تذوق وتسكر بالشربات
لا تحسبوا أن الآلات*عن هزل نفس من غفلات
يا سعد روح وسط الألحان*تسكر وتطرب بالألحان
بكل كأس للعرفان*تشرب وهنا بالنشات
لا تحسبوا أن الآلات*عن هزل نفس من غفلات
أهيل لطفٍ للأرواح*خفوا وخلوا الأشباح
يا فرحهم كل مرتاح*ما عندهم إلّا اللذات
لا تحسبوا أن الآلات*عن هزل نفس من غفلات
محبوب ربي في الأعراس*ينتفي بكأس مع أكياس
لا تحسبوا أن الآلات*عن هزل نفس من غفلات
توضيح وبيان
وتحرير بميزان: قد غلب الجهل على أهل هذا الزمان وفشا، ولم يصدق أحدهم إلا بما عليه نشا، فلهذا يسارع كل منهم إلى التكفير والنكير، وما علم المسكين ما فاته من العلم الكثير: فاسمع أيها الجاهل، تحرير العلماء الأكابر، ولا تلتفت إلى السفلة الأصاغر، وما هم عليه من عصبية الإنكار، سيما على الأولياء الكبار، حتى أن أحدهم يسفه بالمقال، ولم يدر حقيقة ما قال، وما مثل هؤلاء في تنطعهم في الغسل والوضوء ووقوعهم- بالأغراض-، إلا كما قال بعض الأكابر: ورع هؤلاء يسمى: الورع الكلبي: يرفع رجله عند البول: ويرتع بفمه في الميتة. وقديما قيل:
سلاح الـلــئام قبـيح الـكـلام
ولم تزل الأشراف مبتلين بالأطراف
سنة الله قدم بقـدم فيمن تأخّر وتقدّم
وإذ قد علمت هذا، فاسمع التحرير من التحرير، سأل الإمام الأذرعي شيخ الإسلام: تقي الدين السبكي عن تكفير أهل الأهواء والبدع ممن خالف السنة. فقال: اعلم أنا نستعظم القول بالتكفير لأنه يحتاج إلى أمرين عزيزين أحدهما: تحرير المعتقد، وهو صعب من جهة الاطلاع على ما في القلب: وتخليصه عما يشيبه، وتحريره، ويكاد الشخص يصعب عليه تحرير اعتقاد نفسه فضلا عن غيره. الأمر الثاني: الحكم بأن ذلك كفر، وهو صعب من جهة صعوبة علم الكلام ومأخذه، وتمييز الحق فيه من غيره، وإنما يحصل ذلك لرجل جمع صحة الذهن ورياضة النفس واعتدال المزاج، والتهذيب بعلوم النظر والامتلاء من علوم الشريعة، وعدم الميل إلى الهوى، وبعد هذين الأمرين يمكن القول بالتكفير أو عدمه، ثم ذلك إما في شخص خاص، وشرطه- مع ذلك- اعتراف الشخص به، وهيهات أن يحصل.
وأما البينة- في ذلك- فصعب قبولها، لأنها تحتاج- في الفهم- إلى ما قدمناه. وإما في فرقة. فإنما يقال ذلك من حيث العلم الجلي، وإما على أناس بأعيانهم فلا سبيل إلى ذلك إلا بالإقرار و ببينة ولا يكفي- في ذلك- أن يقال: هذا من تلك الفرقة لصعوبة ما قدمناه، والغالب على الفرق عوام لا يعرفون الاعتقاد، وإنما يحبون مذهبا يقيمون إليه من غير إحاطة بكنهه، فلو قدمنا على ذلك وحكمنا بتكفيرهم جر ذلك فسادا عظيما، وإن كنا نحكم من حيث الجملة على من اعتقد ذلك أنه كافر، والثاني: في تشخيصه، على أن التكفير صعب بكل حال، ولا ينكر إذا حصل شرطه. ولقد رأيت تصانيف جماعة يظن بهم أنهم من أهل العلم، ويتعلقون بشيء من رواية الحديث، وربما كان لهم نسك وعبادة، وشهرة بالعلم تكلموا بأشياء ورووا أشياء تبين عن جهلهم العظيم، وتساهلهم في نقل الكذب الصريح، ويقدمون على تكفير من لا يستحق التكفير، وما سبب ذلك إلا ما هم عليه من فرط الجهل، والتعصب، والنشأة على شيء لم يعرفوا سواه وهو باطل، ولم يشتغلوا بشيء من العلم حتى يفهموا، بل هم في غاية الغباوة، فالأولى الإعراض عمن هذا شأنه وإن وجدت أحدا يقبل الهوى هديته وتركت عموم الناس موكولين إلى خالقهم العالم بسرائرهم، يجازيهم يوم يبعثهم. انتهى.
تتميم وتكميل
من غلب على روحه سلطان المحبة والغرام، شطح ورقص وهام، وصاحب هذا المقام لا يفرغ عن السماع والاستماع في كل الأحايين، والأوقات، له أفراح وأوقات، بها يحيا ويقتات. كان بعض الأولياء لا يقوم ولا يقعد إلا بالسماع حتى كان يقال في حقه من أهل بلده: الزنديق، لأنه كان إذا قرئ عليه القرآن لا يتواجد، ولا يستمع، وإذا غني له بالأشعار يستمع ويطيب، فلما حضرته الوفاة قال : إذا أنا مت فغسلوني بالسماع، وإذا حملت على الأعناق فأقيموا السماع، وإذا نزلت إلى قبري كذلك، فلما مات حضره الأكابر من الفقهاء والرؤساء فاستحيى أصحابه أن يحضروا الآلات . فلما فرغ من غسله وأرادوا حمله في التابوت لم يقدروا على ذلك، وتكاثر الناس على حمله فلم يستطيعوا فقال بعض من حضر من الأكابر من الفقهاء: فهل أوصاكم الشيخ بوصية؟ قالوا: نعم، أوصانا أن لا نغسله إلا بالسماع، فلما حضرتم استحيينا منكم، فقالوا: افعلوا ما أوصاكم به، فحركوا الآلات وأنشدوا، فحمل بسرعة، وهذه حكاية مشهورة ذكرها صاحب: الوحيد في أخبار أهل التوحيد، وهنا سؤال وجواب عنه، ف وهذه حكاية مشهورة ذكرها صاحب: الوحيد في أخبار أهل التوحيد، وها هنا سؤال وجواب عنه، فإن قلت: هلا كان الاستماع والتواجد على كلام الله تعالى الذي هو أفضل من كلام المخلوقين وأجدر وأعظم، وفي سماعه ثواب؟ الجواب: كلام الله سبحانه وتعالى قديم، ومستمعه حادث، ولا جامع بين القديم والحادث في مناسبته حتى يحدث في سماعه طرب وإنما يحصل في سماعه الخشوع والهيبة والتعظيم، فافهم ترشد.
وبعض القوم يستمع السماع فرحا بمقام عزيز الوصال، قال الله تعالى:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.[آل عمران:73]
وإذا ثبتت الولاية ذهب الخوف والحزن جميعا، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.[يونس:62]
وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
***
1 - أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود، برقم 1344، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات 8/238.