واعلم أنه متى كانت المناسبة التي بين المحبين بالفطرة الأولى خفيت أسباب المحبة في هذا الوجود، وإن اتفقت بعدُ فإن كانت تلك الأسباب ظاهرة فزمان ظهور المحبة بقدر ارتفاع العوارض عن إحدى الذاتين حتى تحصل المناسبة، وربّما كانت المناسبة فيما بعد يقرب بالرياضة والتنقل في أطوار المحبة حتى تعود إلى أخصّ رُتبِ القُرب. وهذه الأطوار هي مقامات المحبة.(من الرمل) :
ما أرى نفسي إلّا أنتمُ * واعتقادي أنّكم أنتم أنا
عنصر الأنفس منّا واحدٌ * وكذا الأجسام جسمٌ عمّنا
إشارة : واعلم أن النفوس ثلاثة أقسام : نفوس خُلقَت متيَقِّظةً من ذاتها مقبلة على بارئها بالفطرة معرضة عن ما سواه، وهذه هي نفوس الأنبياء وخواصّ الأصفياء أشرق عليها نور الحقّ فجذبها إليه وعكف بها عليه وتُسمّى مطمئنّة.
والقسم الثاني : نفوس أعرضت بالكليّة عن الحق تعالى وغلب عليها حبُّ المحسوسات وشهوات الأجسام لاستيلاء الوهم عليها فأنكرت اللذّات الروحانيّة والمدارك العقليّة، وهذه هي نفوس الأشقياء، فهي محجوبة عن الله تعالى مطرودة عن جنابه ولا مطمع في نجاتها، وتسمّى الأمّارة.
والقسم الثالث : نفوس أقبلت على حبِّ المحسوسات إقبالاً متوسّطاً ولم تستغرق فيها قوّتها بالكليّة بل بقي في قوّتها من اليقظة والفطنة ما تدرك به لذّة المعاني العقليّة وتطلب الفضائل وتنفر الرذائل، فكان لها نظران أحدهما إلى الجانب الأعلى بقدر ما فيها من اليقظة، والثاني إلى الجنبة السفلى بقدر ميلها إلى حبّؤ الشهوات الطبيعيّة، وتُسمَّى اللوّامة. فهذه وإن كانت محجوبة عن كثير من الحقائق الربانية يمكن أن تتزكّى بالرياضة وتلحق برتبة السعداء، وهذا الصنف هم الذين وُضعت لهم مراتب السلوك وإليهم قصدنا بهذا التنبيه، إذ الصنف الأول لا يحتاجون إلى سلوك فإن الحق تعالى أرادهم فاختصّهم بعنايته، والصنف الثاني طُبعوا على الشقاء في أمِّ الكتاب ولا تبديل لخلق الله. والصنف الثالث هم أصحاب الرياضة لأن الأصل طهارة النفس وخلوصها وما حصل فيها من الظلمة عارض، والعارض يمكن زواله ما لم يستحكم لا سيّما إذا بقي في النفس قبولٌ للخير ولم يستحوذ الشرُّ عليها، فهي كالمرآة الصديّة يمكن جلاؤها ما لم يرسخ الصدأ في جوهرها حتى يفسده.
ونحن الآن نصف كيفية السلوك لهذا الصنف من الناس بالرياضة حتى تصفو نفوسهم وترقّ، ثم كيفيّة توصيلها بالتشويق إلى مطالعة جمال الحضرة الإلهيّة ومشاهدة الأنوار القدسيّة بقدر ما يمكننا من العبارة إن شاء الله تعالى.