الفصل الثالث في كيفياته (الذكر) وهي متعددة نذكر بعضها :
منها : أن يجلس كما تقدّم بالكيفية الثابتة في الجلوس مستقبلا أشرف الجهات آخدا ومصعدا ب "لا إله إلا الله" من فوق السر، ناوياً ب "لا إله" إيصالها إلى القلب فيعطيه الثبات عند الإثبات، ويسري في جميع الأعضاء.
ومنها : أن يستشعر في جلوسه عظمة المذكور غائباً في جلاله تائهاً في جماله مراقباً لأستاذه عند شروعه وارتقائه، مبتدءاً الجانب الأيسر، آخداً من عند يده اليسرى، راخياً رأسه مستشعراً حالة الذل والافتقار، ماراًّ بالنفي من ركبته اليسرى إلى ركبته اليمنى، صاعداً إلى منكبه الأيمن لاوياً عنقه إليه، نازلاً بقوّة وشدّة على القلب بالإثبات، مستحضراً عند ابتدائه من ركبته اليسرى "لا معبود إلا الله" وعند ركبته اليمنى "لا مقصود إلا الله" وعند كتفه الأيمن "لا موجود إلا الله"، وعند استيفاء الذكر بالنفي مدّة، ثمّ يزمُّ نفسه مترقِّباً الفيض الإلهي الذي إن صادف المريد السالك أخده إليه وقرب عليه مسافة التعب والنصَب، وطوى له الطريق، وأزال عنه التعويق، ورد في الحديث : (تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ الله) والسعيد من ساعدته الجذبة والعناية، فصار صاحب الخلوة والرياضة قليل جذوى"أي الفائدة" بالنسبة إليه؛ لأن ذاك أخدته أيادي القدرة الربانية والعناية الصمدية، فابتداء المجذوب انتهاء السالك. ومن لم تداركه هذه فهو متردد في سلوكه، واقف وقوف الحيران في عروجه، حتى يفتح عليه باب السعادة وتناديه الحضرة المقدسة : "أقبل إلينا صرتَ محبوبا بعد أن كتَ محبًّا لك الحسنى وزيادة"، وهناك يطيب عيشه، ويتم عروجه.
بلغنا الله هذا المقام الفريد، وجعلنا ممن كشف له عن هذا النقاب ونودي "وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ".
ومنها : موالات الذكر بحيث تكون الكلمتان كالكلمة الواحدة، لا يقع بينهما خلل خارجي أو ذهني، كي لا يأخد الشيطان منه؛ فإنه في مثل هذه المواضع بالمرصاد لعلمه، يضعف السالك عن سلوك الأودية لبعدها عن عادته لاسيما إن كان قريب العهد بالسلوك، وهذا أسرع فتحاً للقلب وتقريباً من الرب، بشرط إحضار الذكر بقلبه مع كل مرة.
وأدنى درجات الذكر أنه كلما قال لا إله إلا الله لا يكون في قلبه شيء غير الله إلّا نَفاهُ من قلبه، ومتى التفت إليه في حال ذكره فقد أنزله منزلة لا إله إلا الله. قال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[الجاثية:23] وقال تعالى : {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ }[الإسراء:39] وقال تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}[يس:60]، وفي الحديث : (تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ)[البخاري] وإن كانا لا يعبدان بركوع ولا سجود وإنما ذلك بالتفات القلب إليهما، فلا يصحُّ لا إله إلا الله إلا بنفي ما سواه من نفسه وقلبه.
وقال عبد الرحيم القناوي : " قلت مرة لا اله الا الله ثم لم تعد الي، و كان في تيه بني اسرائيل عبد أسود كلما قال لا اله الا الله ابيض من رأسه الى قدمه " وتحقيق العبد بلا اله الا الله حالة من أحوال القلب لا يعبر عنها باللسان، و لا يقوم بها الجنان . و لا اله الا الله و ان كانت خلاصة الخلاصة من التوجهات فهي مفتاح حقائق القلوب و ترقي السالكين الى علام الغيوب، اللهم يا علام الغيوب، ويا مفرج الكروب، يا موجود يا معبود، نسألك باسمك الأعظم، ونتوسل إليك بنبيك الأكرم، صلى الله عليه وسلم، أن تحققنا بكلمة التوحيد، وتجعلنا من خواص العبيد، أهل الفناء والمحو والتجريد، وأبقنا لك يا حميد يا مجيد، يا غفار لمن يريد.اللهم اجعل همي بك واحداً، اللهم خدنا منا إليك، ولا تجعل تلفتنا إلا إليك، ونظرنا لا يقع إلا عليك، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.