ومن أدعيته أيضًا المأثورة:
ما رواه صاحب النجم، وغيره عن سيدي محمد بن يحيى، وقيل: عن سيدي عبد العزيز البوبرجي رضي الله عنهما.
ويُقال أن له سرًّا عجيبًا في كشف الكروب، ودفع الملمات وهو هذا: بخفي لطف الله، بلطيف صنع الله, بجميل ستر الله، ودخلت في كنف الله، وتحصنت بألف لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان رضي الله عنه حافظًا للحديث، فمن مروياته عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وَعَدَني رَبي أَنْ يَدْخُل الْجَنة مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا؛ لا حِسَابَ عَلَيْهِم، وَلا عذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفِ سَبْعُون أَلْف، وَثلاث حثيات مِنْ حَثياتِه».
قلت: وهذا قد روي فيه وحده قال صلى الله عليه وسلم: «سبعون ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حسابٍ، وهُم الذين لا يَرقون ولا يسْترقون ولا يتطيّرون، وعلى ربِهم يتوكّلون».
ورُوي: «سَأَلْتُ رَبي فَأَعْطَاني سَبْعون ألفًا يَدخلون الجنة بغيْرِ حسابٍ، فقال عُمَر: يَا رَسُولُ اللَّهِ هَلا استزدته؟ قال: قد استزدته، قال: وَمَا زادك؟ قَال: كُل واحدٍ من السّبعين ألفًا المضاعفة يشفع في سبعين ألفًا، ففي الثالثةُ أوالرابعةً.
قال عليه السلام : وثَلاث حَثياتٍ، قال عمر حينئذٍ: يا رسول الله! إن الله قادرٌ على أن يُدخلهِم كُلهم الْجَنّة بغيرِ حسابٍ بِحثيّةٍ واحدةٍ» ، أو كما قال.
وتأمّل هذا مع ما جاء في أحاديث الرجاء من قوله عليه السلام : «أمَّتي كُلُّها مَرْحُومةٌ منهم؛ مَنْ يَرْحَمه اللهُ بِصَلاته... الحديث.
وقوله لما تلا: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ [فاطر: 32].
ثم قال: «كُلّهم في الجنةِ».
وفي رواية: «سَابقنَا سَابِقٌ، وَمَقْتصدنا لاحِقٌ، وَظَالِمنا مَغْفُورٌ له».
ومن مروياته رضي الله عنه : عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «شَفَاعَتي لأهلِ الْكَبَائر مِن أمتي».
ومن مروياته رضي الله عنه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «النّفَقَة كُلّها في سبيلِ الله إلا البناء فَلا خَيْرَ فيه».
يعني: ما كان خارجًا عن الضرورة، وأما الضرورة ما التمسته الحاجة الفادحة، فلا بأس به، ويؤجر عليه؛ كذا فسروا الحديث... والله أعلم.
ومن مروياته بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ اسْتَيْقظ مِنَ اللّيلِ، فأيقظَ أَهْله، وَصَلّيَا رِكعتين؛ كُتِبَا مِنَ الذّاكرين اللهِ كثيرًا والذاكرات».
ومن مروياته: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : «ثلاثٌ مَنْ كُنّ فِيه سَتَر اللهُ كَنَفه، وَأَدْخله جَنّته؛ رِفْقٌ بِالضعيفِ وشفقةٌ عَلى الوالدين، والإحسان إلى المملوك».
ويحكى عنه رضي الله عنه : إنه كان ملازمًا للإحياء عاكفًا عليه، فمن مروياته فيه: إن الإمام الزاهد مالك بن دينار فَتر ليلة عن ورده من قيام الليل, قال: فرأيت في المنام امرأة لا تشبه نساءَ أهل الدنيا، وفي يدها رقعةٌ, فقالت لي: يا مالك أتُحسن أن تقرأ؟ فقلت لها: نعم فَدَفَعت إليّ الرقعة فإذا فيها مكتوب:
أَهمتك اللذائِذَ وَالأمَاني
عَنِ الْبِيضِ إِلا وَأُنْس فِي الْجِنَانِ
تَعِيشُ مُخَلّدًا لا مَوْتَ فِيهَا
وَتَلْهُو فِي الْجِنَانِ مَعَ الْحِسَانِ
تَنَبّه مِنْ مَنَامِكَ إِن خَيْرًا
مِنَ النّوْمِ التّهجُّد بِالْقُرآنِ
ورُوي: إنه وقع لـ «ذي النون» مثل هذا، فما نام بعدها إلا غلبة, حتى يُقال أن مالك صلّى الصبح بوضوءِ العتمة أربعين سنة.
قلت: واشتهر في زمانه أن أربعين من التابعين صلّوا الصبح بوضوءِ العتمة أربعين سنة، والله أعلم.
وقد نصّ على هذا: أبو طالب في قوته وغيره رضي الله عنه.
ويحكى عن ذى النون أنه أنشد في واقعته:
مَنَعَ القرآنُ بِوَعْدِه وَوَعِيدِه
مقلَ الْعُيُونِ بِلَيْلِها أَنْ تَهْجَعَا
فَهِمُوا عَنِ الْمَوْلَى الْجَليلِ كَلامه
فَرِقَابهم ذُلت إِلَيه خُضّعَا
ويحكى عنه رضي الله عنه فيما نقله جماعة من العلماء كـ ابن الخطيب، وأبي الصبر، والعزفي وابن الزيات.
قال رضي الله عنه: جاءني رجلٌ من الصالحين, فقال لي: رأيت البارحة في النوم حلقةً عظيمةً لِجماعةٍ من الصوفية فيهم؛ أبو يزيد البسطامي، وذا النون المصري، وغيرهما من المشايخ؛ وهم على منابرٍ من النور.
وأبو طالب المكي على منبرٍ عالٍ، وأبو حامد الغزالي على منبرٍ يقابله، وأبو طالب يسأل أولئك الصوفية وكل واحدٍ يجيبه على قدر علمه.
فقال أبو طالب لأبي حامد: أين غابت هذه العلوم التى يصرفها أبو مدين في دار الدنيا؟ فقال له أبو حامد: ها هو ذا عن يمينك فاسأله, فالتفت إليه أبو طالب، فقال له: يا أبا مدين! أخبرني عن سر حياتك؟ فقال له: بسر حياته ظهرت حياتي، وبنور صفاته استنارت صفاتي، وبنور أسمائه استنارت أوصافي، وبديموميته دامت مملكتي، وفي توحيده أفنيت همتي.
فسرُّ التوحيد في قولنا: لا إله إلا أنا، والوجود بأسره: حرف جاء لمعنى.
فبالمعنى ظهرت الحروف، وبأسمائه ائتلف كل مألوفٍ، وبصفاته ظهر كل موصوفٍ, ومراعاته له محكمةٌ، ومخلوقاته له مسلمةً؛ لأنه خالقها ومظهرها ومنه بدؤها وإليه مرجعها؛ كما أظهرها يوم: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172].
يا أبا طالب هذا لوجودك محركٌ، وهو الناطق والممسك، إن نظرت بالحقيقة تلاشت الخليقة، فالوجود به قائمٌ، وأمره في مملكته دائمٌ، وحكمه في خلقه عامٌ؛ كحكم الأرواح في الأجسام, به بانت على اختلاف أنواعها؛ منها اللسان للبيان وهو عليه السلام مع ذلك لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.
فقال أبو طالب: من أين لك هذه العلوم يا أبا مدين؟ قال له: لما أمدني بسره غرقت في وادٍ من بحر فضله، فامتلأ وجودي نورًا، وأثمر غيبةً وحضورًا, وسقاني شرابًا طهورًا، وأذهب ضلالاً وزورًا, فغشيت أنواره أخلاقي, فعسى في القيامة أن أنظر الباقي بالباقي, قلت: إنما قال أبو طالب لأبي حامد: أين أبو مدين والعلوم التى يصرفها؟ فكأنها أجوبة عن الذين كانوا يُسألون ولم يجيبوا بالغرض من الحقائق التى كانت قصده, وكأنه بهذا إبان فخر أبي مدين، وتفخيم أمره، وأوضح عظيم مقامه؛ كما قيل: تَكَلَّّمُوا تُعْرَفوا.
واعلم أعزك الله أن له من الإستقامة ما يشهد له بالكرامة بأكبر الكرامات، وكراماته لا تنحصر.
وما زالت مادته ظاهرة؛ كشيخه سيدي أبي يعزى، وسيدي عبد القادر.
ومن مناقبه: ما ذكره الإمام ابن بادس في شرحه للسينية التي سماها بـ «النفحات القدسية» عن الشيخ الفاضل الإمام الزاهد أكبر تلامذته سيدي أبو محمد صالح.
قال: قامت الحرب بالمغرب في جزيرة الأندلس وغلبت الروم على المسلمين, فأخذ الشيخ سيفه، وخرج إلى الصحراء في نفرٍ يسيرٍ، وأنا معهم, ثم جلس على كثيبٍ من الرمل، وإذا بين يديه خنازيرٌ من الروم قد ملأت البرية كثرة, فوثب الشيخ وصار بينهم، فاستل سيفه وعلا بها رؤوسها, فيضرب الفارس فيصرعه وفرسه, وما زال كذلك حتى صرع الكثير منهم، وولّت الروم بين يديه هاربةً، ورجع.
فسألناه بعد أن رجع إلى حسِّه, فقال: هؤلاء الإفرنج أخزاهم الله تعالى، فأرّخنا الوقت، فإذا هو وقت النصر، وجاءه المجاهدون بعد ذلك، وأكبّوا على رجليه، وقالوا له: يا سيدي لو لم تغثنا لهلكنا، وأقسموا له أنه لو لم يكن بين الصفين لفنوهم الكفار، ومن بقي أسروه، وأن المسلمين أهل الحرب كانوا يشاهدونه يصرع الفارس وفرسه وهو كذلك.
فلما تمّت الحرب، وانهزم المشركون لم يروه بعد ذلك، وكان بينه وبين الموضع أكثر من مسيرةِ شهرٍ.
قال أبو محمد صالح الدكالي: قدم أناسٌ من المشرق فاشتهوا عنبًا من المشرق في غير إبانة , فقال لي الشيخ أبو مدين: يا صالح! ادخل البستان وأتنا بعنبٍ.
قلت: الساعة خرجت منه ولا شيء فيه، قال: بلى فيه.
فدخلت، فإذا الدوالي مملؤة عنبًا، فجئت، واحتملت، فأكلوا وأكلت معهم وليس فيه عجم.
وروي أبو العباس الورنيدي المعروف بـ «ابن الحاج في شرحه على النفحات القدسية» عن أبي محمد صالح وابن بادس عن أبي الحجاج الأنصاري قال: سمعت شيخنا أبا محمد عبد الرزاق الجزولي يقول: مَر شيخُنا أبو مدين ببعض القرى بالمغرب، فرأى أسدًا يأكل من حمارٍ افترسه، وصاحبه بعيد يبكي من الفاقة، فأمسك الشيخ بناصية الأسد أو قال: بأذنه، وقاده ذليلاً، وقال لرب الحمار: أمسك هذا واستعمله موضع حمارك, قال: أخافه، قال له: لا يستطيع أن يؤذيك.
فمر يقوده والناس يتعجبّون، ثم أتى به آخر النهار، وقال له: ياسيدي! أينما سرت يتْبَعُني، وأنا أخافه، قال الشيخ: اتركه لا بأس عليك, ثم قال للأسد: اذهب فمتى أذيتم بني آدم سلطتهم عليكم.
قلت: وهذه الحكاية تدل على أن الحكم له والتصريف، والأولى على البداية، وأن الأرض صارت له قدم.
وحكى الحريفشي وغيره قال: كان الشيخ أبو مدين من الأبدال، وهو عظيم القدر؛ صاحب الخواطر والخطوة والكرامات.
وكان يتكلّم في الحقائق بعد صلاة الصبح بمسجدٍ بالخضراء بالأندلس، فسمع به رهبانُ ديرٍ يُعرَف بـ دير الملك، وكانوا سبعين نفرًا أو قال سبعين رجلاً، فجاء من أكابرهم عشرة أنفس للاختبار والامتحان، فتنكّروا ولبسوا زي المسلمين، ودخلوا المسجد، وجلسوا مع الناس، ولم يعلم بهم أحد.
فلما أراد الشيخ أن يتكلّم سكت حتى جاء رجلٌ خياطٌ قال له: ما أبطأك ؟ قال: يا سيدي جلست حتى استوعبت الطواقي التي أوصيتني عليها، والآن فرغت منها.
فأخذها الشيخُ منه ونهض قائمًا، ولبس كل واحدٍ من العشرة طاقية، فتعجّبوا الناس من ذلك ولم يعلموا بالخبر حتى شرع الشيخ في الكلام.
فكان من جملة قوله: يَا فُقَراء إذا هبّت نسماتُ القبول والتوفيق والفضل من الحق على القلوب المشرقة أطفأت كل نورٍ.
ثم تنفّس الشيخُ فانطفأت قناديلُ المسجدِ كلُّها وكانت تنيف على ثلاثين، ثم سكت وأطرق فلم يجد أحدًا أن يتكلم؛ لعظيم الهيبة، أو يتحرّك.
ثم رفع رأسه وقال: لا إله إلا الله يا فقراء! إذا أشرقت أنوارُ العناية على القلوب الميتة أضاء لها كل ظلمة.
ثم تنفّس الشيخ فاشتعلت القناديل، وعاد لها نورها واضطربت اضطرابًا شديدًا حتى كاد يلحق بعضها بعضًا.
ثم تكلّم الشيخُ في آيةِ السجدة، فسجد وسجد الناس، فسجدوا الرهبان مع الناس خشيةَ الفضيحة والاشتهار.
فقال الشيخ في سجوده ودعائه: اللُّهم إنك أعلم بتدبيرِ خلقك، وَمصَالِحِ عِبَادِك، وَإِن هَؤلاءَ الرهبان قَدْ وَافَقُوا الْمُسْلِمِين فِي لِبَاسِهم وَالسُّجُود لَكَ, وَأَنا قَدْ غيّرت ظَوَاهرَهُم وَلَمْ يَقْدر عَلى تغييرِ بَوَاطِنهم غيْرك، وَقد أَجْلَستهم عَلى مَوَائد كَرَمك؛ فَانْقِذْهم مِنَ الشِّركِ والطُّغْيَان، وأخْرِجهم مِنْ ظُلُمَاتِ الْكفرِ إِلَى نُورِ الإيمانِ.
فما رفع الرهبان رؤوسهم من السجود إلا وقد مضى عنهم الهجران والصدود، ودخلوا في دين الملك الصمد الواحد المعبود، فأسلموا وبلغوا المقصد.
فأتوا الشيخ وأسلموا على يديه وتابوا وبكوا وندموا على ما كان منهم، وكثر الصياح والبكاء في المسجد.
وكان مشهورًا، ومات ثلاثةُ أنفُسٍ في المجلس، ففرح الشيخُ بإسلامهم.
قلت: هذا الشيخ لم يثبت عنه أنه رجع للأندلس قطٌّ منذ خرج منها ولكن لما كان صاحب كراماتٍ، وخوارقٍ عادات يمكن أن خرقت له العادة؛ كما اتفق له مع النصارى في القصة التى تقدّمت.
وكان من أبي شعيب في صلاته على حجة الإسلام وهو بالمغرب، والغزالي بالمشرق، وكم لهم من مثل هذه الكرامات رضي الله عنهم!
قال الشيخ الحريفيشي بعد وروده لهذا الحكاية: هذه والله صفةُ الأولياءِ الأخيارِ، والسادات الأبرار؛ أمناء الله على عباده ورحمةً لهم في بلاده.
وقد ذكر حجة الإسلام في كرامات الأولياء: إن الأرض لهم خطوة يسيرون فيها كيف شاءوا.
وقال محمد بن سهل بن عبد الله لما سئل عن صفة الولي المحقق قال: ما أراد موضعًا إلا وجد نفسه فيه، وإذا شغله أمرٌ أقام الله ملكًا في موضعه يتكلّم بلسانه، فالناس يظنون هو وليس بِهو.
وقد استوفى هذا المعنى صاحب روض الرياحين: صدّق بهم تَنَلْ فضلهم، وتتدارك بركاتهم، وإلا سلِّم لهم.
وإيّاك والتكذيب فتهلك مع الهالكين! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.