الباب الرابع والثلاثون : في القرآن.
القرآن ذات محض أحديتها حقّ فرض
هي مشهده فيه ولَهُ من حيث هويته غمض
تتلو ما تطلبه منه وهو المطلوب له الفرض
فقراته هي حليتُهُ بحلاه وذاك فنا محض
لكن من حيث الذات له لا كل هناك ولا بعض
هي لذّته في الذات به من حيث الذوق ولا غض
والفهم لتلك اللذّة قر آنك هي هذا الفرض
اعلم أن القرآن عبارة عن الذات التي يضمحل فيها جميع الصفات، فهي المجلى المسماة بالأحدية أنزلها الحق تعالی علی نبیه محمد صلى الله عليه وسلم لیكون مشهده الأحدية من الأكوان. ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية العالية في دارها ظهرت بكمالها فی جسده، فنزلت عن أوجها مع استحالة النزول والعروج علیها، لكنه صلى الله عليه وسلم لما تحقق جسده بجميع الحقائق الإلهية، وكان مجلى الإسم الواحد بجسده ، كما أنه هويته مجلى الأحدية وبذاته عين الذات. فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : "أنزل علي القرآن جملة واحدة"، يعبر عن تحققه بجميع ذلك تحققاً ذاتياً كلياً جسمياً، وهذا هو المشار إليه بالقرآن الكريم لأنه أعطاه الجملة، وهذا هو الكرم التام لأنه ما ادّخر عنه شيئاً، بل أفاض عليه الكل كرماً إلهياً ذاتياً.
وأما القرآن الحكيم فهو تنزل الحقائق الإلهية بعروج العبد إلى التحقق بها في الذات شيئاً فشيئاً على ما اقتضته الحكمة الإلهية بعروج العبد الى التحقق بها فى الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة الإلهية التي ترتبت الذات عليها، فلا سبيل غير ذلك، لأنه لا يجوز من حيث الامكان أن يتحقق أحد بجمیع الحقائق الإلهية بجسده من أول إيجاده،لكنه من كانت فطرته مجبولة على الألوهية فإنه يترقى فيها ويتحقق منها بما سيكشف له من ذلك شيئاً بعد شيء مرتباً ترتيباً إلهياً، قد أشار الحق إلى بيان ذلك بقوله: "وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلً"[الإسراء:106]. وهذا الحكم لا ينقطع ولا ينقضي، بل لا يزال العبد في ترق، وهكذا لا يزال الحق في تجل إذ لا سبيل إلى استيفاء ما لا يتناهى لأن الحق نفسه لا يتناهى.
فإن قلت : فما فائدة قوله : "أنزل علي القرآن جملة واحدة" قلنا : ذلك من وجهين: الوجه الواحد من حيث الحكم، لأن العبد الكامل إذا تجلى الحق له بذاته حكم بما شهده أنه جملة الذات التي لا تتناهى، وقد نزلت فيه من غير مفارقة لمحلها الذي هو المكانة.
والوجه الثاني من حيث استيفاء بقيات البشرية واضمحلال الرسوم الخلقية بكمالها لظهور الحقائق الإلهية بآثارها فى كل عضو من أعضاء الجسم. فالجملة متعلقة لقوله على هذا الوجه الثاني، ومعناه ذهاب جملة النقائض الخلقية بالتحقق بالحقائق الإلهية. وقد ورد فى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أنزله الحق على آيات مقطعة بعد ذلك".هذا معنى الحديث: فإنزال القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا إشارة إلى التحقيق الذاتي، ونزول الآيات مقطعة إشارة إلى ظهور آثار الأسماء والصفات مع ترقي العبد في التحقق بالذات شيئاً فشيئاً. وقوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ"[الحجر:87]. فالقرآن هنا عبارة عن الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة، بل مطلق لجميع المراتب والصفات والشؤون والاعتبارات، والمعبر عنها بساذج الذات مع جملة الكمالات، ولهذا قورن بلفظ العظيم لهذه العظمة والسبع المثاني عبارة عما ظهر عليه في وجوده من التحقيق بالسبع الصفات.
وقوله تعالى: " الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ"[الرحمن"1-2] إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن يجد في نفسه لذة رحمانية تكسبه تلك اللذة معرفة الذات، فيتحقق بحقائق الصفات، فما علمه القرآن إلا الرحمن، وإلا فلا سبيل إلى الوصول إلى الذات بدون تجلي الرحمن الذي هو عبارة عن جملة الأسماء والصفات، إذ الحق تعالى لا يعلم إلا من طريق أسمائه وصفاته فافهم، وهذا شيء لا يفهمه إلا الغرباء، وهم الأفراد الكمل الأمجاد الذين هم موضع نظر الله من العباد، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.