معنى الملك والملكوت :
الملك : عالم الشهادة والحس، وهو من شانه أن يدرك بالحس والوهم كما تقدم .
والملكوت : عالم الغيب والخفاء، وهو من شانه أن يدرك بالعقل والفهم كما تقدم أيضا .
معنى بحر الدنيا وبحر الآخرة :
بحر الدنيا وبحر الآخرة : يعني البحر الذي هو بالدنيا، والبحر الذي هو الآخرة، فإنهما هائلان ومهيلان، بل هما أعظم البحور، وفيهما معنوي وحسي ، وكل ذلك لا يجري فيه إلا بتسخير الله، فوجب ان يرجع الى الله فيه .
وإنما قال ( بيده ملكوت كل شيء ) ولم يذكر ملكه، اكتفاء بالأقوى عن الأضعف، فمن يملك ملكوته يملك ملكه ضرورة بخلاف العكس، والله اعلم .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( كهيعص، كهيعص، كهيعص ).
قلت : لقد اختلف العلماء في هذه الفواتح المعجمة في أوائل السور، فقال قوم :هي من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله وحده. وقال ابن السبكي : وقد يطلع الله عليه بعض أصفيائه . وقيل هي خواتيم رب العالمين . وقيل : هي اسم الله الأعظم . وقيل: هي أعداد الملة المحمدية، وكم يدوم زمانها . والذي يتحقق من ذلك أنها رموز لا يعلم حقيقتها غير واضعها ،ولا يمنع اختلاف الفهم فيها من أن يكون لها معنى لا يدركه أحد من الخلق .
ومن وجوه الفهم، إنها تراجم على ما تضمنته السورة من معاني، وإلى ذلك نحا الشيخ برمزها، والله اعلم .
وهي خمسة أحرف : كاف الكفاية، وهاء الهداية، وياء الولاية، وعين العناية ،وصاد الصدق .
وكل هذه الأسماء الخمسة ظاهرة في كل قصة من هذه السورة المباركة، ألا تراه كفى زكريا الموالي من ورائه، وهداه لدعائه، وشكره في حاله، باعترافه بعجزه عن ما أولاه من إصلاح زوجه، وإتيانه ولدا مع ضعفه، واظهر عنايته عليه، وعلى زوجه وولديه فيما تولاهم به، ثم فعل ذلك بمريم وولدها، وإبراهيم وولديه، وموسى وأخيه، وما منً به على إدريس ونوح، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام . وتفصيل ذلك يطول، ووجه الفهم فيه بالبصائر أتم من الرسم .
وعلى هذا الوجه، ذ كر الشيخ لها إنما هو تعريض بطلب الكفاية، والهداية، والولاية ، والعناية، وتحقيق الوعد في الإجابة في طي التسخير المذكور على وجه لا يحصره الحد، ولا يحصيه العد ، ولا تمكن الإشارة إليه إلا بالرموز .
وكون لك على الوجه الواقع لمن ذكر كما تقدم في قوله (كما سخرت البحر لموسى ) إلى آخره فافهم .
وقد تكون الحروف من أسماءه جل وتعالى : الكافي، والهادي، والولي، والعظيم، والصادق وعده .
وقد يكون المعنى إنها رمز في الوجهين لاتساع المعاني، وعظيم المباني، وقوة الأثر في النفس، واقتداء بالكتاب العزيز في رفع السر .
وتكرير الشيخ الكلمة ثلاثا، إما اعتبار لحصول المعنى المقصود في جسمه وقلبه وروحه، أو اعتبار بطلب ذلك في الظاهر والباطن، أو فيهما، أو اعتبار بالحال والماضي والاستقبال، وقد يكون اعتبارا بالمنفصلات، والمتصلات، والأمور المشتركة . وها بحسب ما يتناوله الفهم، ويقرب لأذهان الخلق، وهو المقصود عند ذوي المعارف في بساط التعليم .