آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شرح منازل السائرين عبد الرزاق القاشاني -25

قال : 

وَإِنَّمَا ينْتَفع بالعظة بعد حُصُول ثَلَاثَة أَشْيَاء بِشدَّة الافتقار إِلَيْهَا والعمي عَن عيب الْوَاعِظ وبذكر الْوَعْد والوعيد.


إنما اشتدّ الافتقار إلى الوعظ لمن كان ضعيف التفكُّر مُبتديا فيتعظ به ويتذكّر ما نسيه، فإن لم يشتد افتقاره لم ينتفع بالوعظ ، ومَن أبصر عيب الواعظ لم يخشع قلبه  بوعظه ولم يتأثّر به، فليكن الطالب مشتغلا بعيوب نفسه عن عن عيب غيره
، سيَما الواعظ والشيخ فليعمَ عن تقصيرهما في العمل وإلّا لم ينتفع بهما، ومن لم ينظر إلى عيب غيره فكأنما عمى عنه، فاستعار العمى لعدم النظر مبالغة في التحذير عنه، قال أمير المؤمنين عليه السلام : "لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال"، قال الشاعر : 

اسمع مقالي ولا تنظر إلى عملي     ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري

وأمّا ذكر الوعد والوعيد، فالانتفاع به في الاتعاظ  ظاهر.

وَإِنَّمَا تستبصر الْعبْرَة بِثَلَاثَة أَشْيَاء بحياة الْعقل وَمَعْرِفَة الْأَيَّام والسلامة من الْأَغْرَاض.


استبصار العبرة يحقِّقها شدّة تبصُّرها بنور البصيرة، ولا يحصل ذلك إلا بحياة العقل، فإن حياة العقل قوّة إدراكه وحدَّة فهمه وتميّزه بين المنافع والمضارّ والمحاسن والمقابح بتجرّده وصفائه، وإذا لم يُقوّ الإدراك لم يصحّ الاستبصار، وإذا لم يميّز المنافع من المَضار لم ينتفع بالعبر، وقد جرّب القوم أن الإكثار من ذكر "يا حيّ يا قيّوم يا من لا إله إلا أنت" يوجب حياة العقل.

وأما معرفة الأيّام مرّ بنا بها في باب اليقظة، وحاصلها هاهنا أن يعتبر زيادة العمل الصالح ونقصانه في أيام عمره وفجور نفسه وتقواها ويتذكّر قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:9-10] فلا يُضيِّع أيامه ويُصرِّفها في تزكية نفسه بالزهد والعبادة والسير إلى الله بالتخلُّق بأخلاقه وتبديل أوصافه. والسلامة من الأغراض إنما تكون بإخلاص العمل لوجه الله والبراءة من الرياء والنفاق وسائر أغراض الدنيا، فإنها تميت العقل وتزيل مَلكة الاستبصار بالعِبر.

وَإِنَّمَا تجنى ثَمَرَة الفكرة بِثَلَاثَة أَشْيَاء بقصر الأمل والتأمل فِي الْقُرْآن وَقلة الْخلطَة وَالتَّمَنِّي والتعلق والشبع والمنام.


إنما تُجتنى ثمرة التفكر في مقام التذكّر ، لأن التذكّر أعلى من التفكّر وقد سبق تصحيح كل مقام، إنما يكون في مقام أعلى منه ليطلع عليه من فوق فيدرك ما فاته من بقاياه فيه، فذكر أن أسباب الاجتباء ثلاثة : 

الأول : قصر الأمل باستقراب الأجل، فإن من استقرب الأجل زهد في الدنيا وآثر الآخرة واجتهد في تحصيل السعادة الآجلة، وتذكّرها بعد الموت وأحبّ لقاء الله وكره زخارف الدنيا وعلِم أن العاقبة للتقوى، وذلك من ثمرات التفكر.

الثاني : التأمُّل في القرآن ومواعظه وزواجره وأحكامه والاعتبار بقصصه وأمثاله، وامتثال أوامره والاجتناب عن حدوده ومحترمه فإنها تُنوِّر القلب وتذكّر الموت وتُحصِّل ثمرات الفكر من المعارف والحكم.

الثالث : التقليل من خمسة أشياء، أولها : اختلاط الخلق فإنه يشغل عن الحقّ ويُذهل عن الموت فليَحذر بالكلية عن صُحبة أبناء الدنيا وليقتصر على صحبة الصالحين الزاهدين فيها والعلماء والعرفاء المحققين المُذكرين للحق ولقائه، فإن في صحبتهم بركةً ورحمةً وهدى وموعظة للمتقين، فإن لم يجد فعليه بالعزلة والانزواء. الثاني : التمنِّي فإنه مواعيد الشيطان وكلّه كذب وزور وتوهُّمٌ باطل، وغرور يُنسي الحق ويُسوِّل الباطل ويجعل الفكر وسواساً. الثالث : التعلق بما سوى الله فإنه شرك، ومن انجذب إلى الغير بَعُد عن الحقِّ واستحقَّ اللعن والطّرد. الرابع : الشِّبع فإنه يُهيِّج الشهوات ويُغلِّب البَطَرَ والأشَرَ، ويُكِلُّ الإدراك والنظر، ويسدُّ طُرُق الفهم والالهام ،ويُطرّقُ وساوس الشيطان والأوهام. الخامس : المنام وهو يُكسل عن الطاعة ويُكدّر الحواس ويُحبب للنفس البطالة، وويُورث النسيان، ويُميت قلب الإنسان، وينكسه إلى مراتب سائر الحيوان، واعلم أن الجوع ينفي هذه الرذائل كلها من النفس لأنه يُقلُّ النوم ويُملُّ عن الخلق، ويُضيِّق مداخل الشيطان، ويُصقل القلب فيرى مكائده ويسدُّ بالتذكُّر باب التمنِّي ةيقطع العلائق ويهجر الباطل باجتلاء نور الحق فليقتصر الطالب على الحقوق ويترك الحظوظ.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية