وقد يكون أقوى درس، وأقوى حجَّة على هؤلاء المفتونين فكريًّا، أن نقطف بعض الأدلّة والحجج الدامغة، ممّا سجَّل به أصحاب الحقيقة الصوفية الالتزام بالاستقامة على شرع الله، والعمل بكتابه وسنة نبيه. وهم الذين احتجَّ الإمام الشاطبي بآراء أكثر من أربعين منهم في إثبات السنّة، ودحض البدعة، ودوَّنها في "الاعتصام" والاعتصام يعني الاعتصام بالسنّة من البدعة، فقد قال :
قال الفضيل بن عياض : مَن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وقيل لإبراهيم بن أدهم : إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . وَنَحْنُ نَدْعُوهُ مُنْذُ دَهْرٍ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَنَا، فَقَالَ: مَاتَتْ قُلُوبُكُمْ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا: عَرَفْتُمُ اللهَ ولَمْ تُؤَدُّوا حَقَّهُ، وَالثَّانِي: قَرَأْتُمْ كِتَابَ اللهِ ولَمْ تَعْمَلُوا بِهِ، وَالثَّالِثُ: ادَّعَيْتُمْ حُبَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكْتُمْ سُنَّتَهَ، وَالرَّابِعُ: ادَّعَيْتُمْ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ وَوَافَقْتُمُوهُ، وَالْخَامِسُ: قُلْتُمْ نُحِبُّ الْجَنَّةَ ومَا تَعْمَلُوا لَهَا ...إلخ
وقال ذو النون المصري : من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه و أفعاله و أوامره و سنته. وقد ذكر من أسباب الخَلق أنّهم آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله، واتّبعوا أهواءهم. وقال بشر الحافي : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا بشر، أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟ قلت: لا، يا رسول الله. قال: باتِّباعك لسنَّتي، وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لاخوانك، ومحبتك لأصحابي، وأهل بيتي : وهو الذي بلَّغك منازل الأبرار».
وقال يحيى بن معاذ الرازي : اختلاف الناس كلّهم يرجع إلى ثلاثة أصول. فلكلّ واحد منها ضدّ. فمن سقط عنه أصل وقع في ضدّه : التوحيد وضدّه الشرك، والسنّة وضدّها البدعة، والطاعة وضدها المعصية.
وقال أبو بكر الدّقاق - وكان من أقران الإمام الجنيد - : كنتُ مارًّا في تيهِ بني بني إسرائيل، فخطر ببالي أنّ علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف : كلّ حقيقة لا تتبعها الشريعة، فهي كفر.
وقال أبو عليّ الحسن بن عليّ الجورجاني : من علامة السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه، وموافقة السنة في أفعاله، وصحبته لأهل الصلاح، وحسن أخلاقه مع الإخوان، وبذل معروفه للخلق، واهتمامه بالمسلمين، ومراعاته لأوقاته.. وسئل : كيف الطريق إلى الله ؟ فقال : الطرق إلى الله كثيرة، وأوضح الطرق، وأبعدها عن الشُّبَه اتّباع السنّة قولًا وفعلًا وعزمًا وعقدًا ونيّة؛ لأن الله يقول : {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[النور:54] وقيل له : كيف الطريق إلى السنّة ؟ فقال : مجانبة البدع، واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله، ولزوم طريقة الاقتداء.. وبذلك أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[النحل:123] وإبراهيم خليل الله، وملّته ملّة إلهية ربّانيّة منزّلة.
وقال أبو بكر الترمذي : لم يجد أحد تمام الهمّة بأوصافها، إلا أهل المحبّة، وإنما أخدوا ذلك باتباع السنة، ومجانبة البدعة، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أعلى الخَلق كلهم همّة، وأقربهم زلفى.
وقال أبو حسن الورّاق : لا يصعد العبد إلى الله إلّا بالله، وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلّم في شرائعه. ومن جعل طريق الوصول في غير الاقتداء يضلُّ من حيث إنه مهتد، وقال : الصدق استقامة الطريق في الدّين، واتّباع السنّة، وقال : علامة محبّة الله متابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو إبراهيم القمَّار : علامة محبّة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. وقال عبد الوهاب الثقفيّ : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابا، ومن صوابها إلا ما كان خالصا، ومن خالصها إلا ما وافق السنّة.
وقال الإمام الشاطبي : وإبراهيم شيبان كان شديدًا على أهل البدع متمسِّكًا بالكتاب والسنّة، لازمًا لطريق المشايخ والأئمّة، حتى قال فيه عبد الله بن منازل :"إبراهيم حجّة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات" يعني الفقراء إلى الله، من أصحاب آداب السلوك، وحسن المعاملة مع عباد الله.
وقال أبو بكر بن سعدان - من أصحاب الجنيد - : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة، والمعاصي والبدع والضلالات.