الباب الرابع : في ضرر معاداتهم والوقيعة فيهم والإنكار عليهم وعلاج ذلك.
قال ربنا سبحانه وتعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}[الأحزاب:58] قال مجاهد : يقعون فيهم ويرمونهم بغير جُرم فقد احتملوا بُهتاناً وإثماً مبيناً. ورُوي عن نبيا صلى الله عليه وسلم أنه قال : (المؤمن أفضل من الكعبة"، و: "المؤمن طيب طاهر"، و: "المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة"، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول : (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنتُهُ بِالحَرْبِ "أيْ أعلمتُه أنّي محارب له" وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)"رُوي بالنون والباء "لأعيذنه" وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ونادى بصوت رفيع فقال : (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَم يُفْضِ الإِيمَانُ إلى قَلْبِهِ, لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِين, وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ "أي لا تُعيِّبوهم، يعني لا تنسبوهم إلى عيب ولا تصفوهم بعيب" وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم, فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المسلم؛ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحُهُ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم : (لمّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرتُ بِقَومٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمَشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَائيل ؟ قال : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَاْكُلُونَ لُحومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ). رواه أبو داوود.
وفي الحديث القدسي الطويل لأنس رضي الله عنه : قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بولي من أولياء الله تعالى، قال الأعرابي : ومن أولياء الله تعالى ؟ قال المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى، أما سمعت قول الله تعالى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).1
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني : أن طريق القوم مشيدة بالكتاب، والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها لا تكون مذمومة، إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير، وأما إذا لم تخالف، فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم فمن شاء فليعمل به، ومن شاء تركه ونظير الفهم في ذلك الأفعال وما بقي باب للإنكار، إلا سوء الظن بهم وحملهم على الرياء، وذلك لا يجوز شرعاً. ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف، عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة فكل من عنب بهما انقدح له من ذلك علوم، وأدب، وأسرار، وحقائق تعجز الألسن عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام، حين عملوا بما عملوه من أحكامهم، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة، إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس، كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو، فمن جعل علم التصوف علماً مستقلاً صدق، ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق، كما أن من جعل علم المعاني والبيان علماً مستقلاً، فقد صدق، ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق، لكنه لا يشرف على ذوق أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة، لا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى الغاية، ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم، وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظير الأحكام الظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات، ومندوبات، وآداباً ومحرمات ومكروهات، وخلاف الأولى نظير ما فعله المجتهدون، وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئاً لم تصرح الشريعة بوجوبه، أولى من إيجاب ولي الله تعالى حكماً في الطريق، لم تصرح الشريعة بوجوبه كما صرح بذلك اليافعي وغيره.
وإيضاح ذلك: أنهم كلهم عدول في الشرع، اختارهم الله عز وجل لدينه، فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة، وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة، ولكن أصل استغراب من لا له إلمام بأهل الطريق أن علم التصوف من عين الشريعة، كونه لم يتبحر في علم الشريعة، ولذلك قال الجنيد رحمه الله تعالى: علمنا هذا مشيد بالكتاب، والسنة رداً على من توهم خروجه عنهما في ذلك الزمان، أو غيره، وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله عز وجل إلا من تبحر في علم الشريعة، وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها. وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها، وغير ذلك فكل صوفي فقيه ولا عكس. وبالجلمة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم.
وكان الشيخ علي الخواص رحمه الله تعالى يقول : إياك أن تصغى لقول مُنكر على أحد من طائفة العلماء والفقراء فتسقط من عين رعاية الله عز وجل وتستوجب المقت من الله تعالى. وقال الشيخ محي الدين بن عربي قُدس سره : أصل منازعة الناس في المعارف الإلهية، والإشارات الربانية كونها خارجة عن طور العقول، ومجيئها بغتة من غير نقل، ونظر، ومن غير طريق العقل فتنكرت على الناس من حيث طريقها، فأنكروها وجهلوها، ومن أنكر طريقاً من الطرق عادى أهلها ضرورة لاعتقاده، فسادها، وفساد عقائد أهلها، وغاب عنه أن الإنكار من الوجود، والعاقل يجب عليه أن يغير منكراً أنكره ليخرج عن طور الجحود، فإن الأولياء، والعلماء العاملين، قد جلسوا مع الله عز وجل على حقيقة التصديق، والصدق والتسليم، والإخلاص، والوفاء بالعهود، وعلى مراقبة الأنفاس مع الله عز وجل حتى سلموا قيادهم إليه، وألقوا نفوسهم سلماً بين يديه، وتركوا الانتصار لنفوسهم في وقت من الأوقات حياء من ربوبية ربهم عز وجل، واكتفاء بقيوميته عليهم، فقام لهم بما يقومون لأنفسهم بل أعظم، وكان تعالى هو المحارب عنهم لمن حاربهم، والغالب لمن غالبهم.
وقال قدس الله سره في باب الوصايا من الفتوحات : "إياكم ومعاداة أهل لا إله إلا الله، فإن لهم من الله تعالى الولاية العامة؛ فهم أولياء الله تعالى، ولو أخطأوا وجاءوا بتراب الأرض خطايا لا لا يشركون بالله شيئا، فإن الله تعالى يتلقى جميعهم بمثلها مغفرة ، ومن ثبتت ولايته حرُمت محاربته، وإنما جاز أحدٍ من الذاكرين الله تعالى لظاهر الشرع من غير أن تؤذيه وتزدريه وأطال في ذلك".
قلت : ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث القدسي الطويل الذي رواه مسلم : قال الله تعالى : من لَقِيَني بقِراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة.
** ** **
1 - قال ابن السبكي: (6/ 364) لم أجد له إسناداً.
(وفي بعض الأخبار) ولفظ القوت وفي الخبر المنفرد (المؤمن أفضل من الكعبة).]
قال العراقي: رواه ابن ماجة من حديث ابن عمر بلفظ ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم حرمة منك ماله ودمه وإن تظن به إلا خيراً وشيخه نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان .