الفصل الثاني
الأدب الصوفي، وجمالية شعر الوجدان
ميزة الخطاب الصوفي : إ ن أغلى ميزة ينماز بها الخطاب الصوفي هو ذلكم الجانب الباطني لعالم الأشياء ما علمت منها الذات الإنسانية العارفة، وما لم تعلمه؛ عن طريق تلكم المعاني التي أضحت الذات المتصوفة تنفرد بها وهي تصبو نحو اللامتناهي أو اللامعرفة أو اللاعقل أي المطلق، وهي إذ تقوم بهذه الطريقة لعلمها اليقيني بأن الخالق عز وجل قد بث في الذات الإنسانية مجموعة من النواميس الفطرية والوجودية لكي تتحلى بالجانب الإطلاقي شكلا ومضمونا.
فالخطاب الصوفي خطاب يريد أن ينماز عن غيره من الخطابات الأخرى كالخطاب الفلسفي والأصولي والفقهي والأدبي وغيرها، مما يكسبه في نهاية المطاف تصورا إطلاقيا لعالم الأشياء؛ فيعتمد حينها على الذوق والقلب في الوصول إلى الحقيقة الربانية عن طريق الحدس وذلكم الكشف العرفاني. بعبارة أدق أن غالبية "... الفلسفة يعتمدون على النظر العقلي والاستدلال البرهاني والمنطقي، ويرون أن العقل هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة اليقينية الصادقة، أما علماء الكلام فيرون أن الجدل الافتراضي هو المسلك الوحيد للوصول إلى الحقيقة، في حين يذهب الفقهاء إلى أن ظاهر النص هو مشكاة اليقين ونواة الحقيقة الربانية، بيد أن المتصوفة هم على العكس يعتمدون على الذوق والقلب في الوصول إلى الحقيقة الربانية عن طريق الحدس والكشف العرفاني".
على هذه الشاكلة في سير الخطاب الصوفي وفق هذه الحقيقة القائمة على الذوق والقلب والإحساس الباطني لعالم الحقائق، راح الخطاب ينقسم إلى قسمين اثنين: أحدهما عام وهو ما سار على طرق الظاهر أو السطح والذي يعرفه غالبية الخلق عن طريق النص أو النظر العقلي، والثاني خاص باطني لا يدركه إلا خاصة من الناس وهم علماء الباطن والسلوك الذوقي، وذلك اعتمادا على العرفان والقلب والحدس. ولقد أدى فيما بعد أن نتج عن طريق هذا النوع من التمايز في عالم الخطاب الصوفي في تعامله مع المعرفة دلالتين: دلالة حرفية لغوية ظاهرية، ودلالة إيحائية رمزية قائمة على مبدأ الانزياح أو الانحراف وصور المجاز التي جعلت الخطاب الصوفي يجسد معالم الاتجاه التأويلي بشكل متميز وفريد من نوعه.
هو إذن الخطاب الصوفي بما ينماز به من شمولية مطلقة في تعامله مع عالم المعرفة وفق الذوق والحدس والكشف العرفاني عن طريق تلكم الأسرار المبثوثة في عالم الروح الإنسانية، وهو ما جعل من الخطاب الصوفي فيما بعد أن تتكون في خطاباته عدة حقائق قائمة في الرمز بجميع ما تعنيه هذه الكلمة؛ الشيء الذي جعل من غالبية المتصوفة أن يقتحموا عالم الشعر والأدب عن طريق هذه الشمولية التي وجدت صدى خاصا ومتميزا فيما سمي بالأدب الصوفي وفق المدونة المفاهيمية والمصطلحية التي اعتمدها في كثير من المقامات والسياقات.