وقد صح من كرامات بعض أصحابه رضي الله عنه : إنه كان يصلّي الصبح في بغداد، ويأتي مكة، فيجدهم في ذلك الصبح بعينه.
وقد كان من الصدِّيقين من يصلي الصبح بمكة، والظهر بالمدينة، والعصر ببيت المقدس، والمغرب بجبل الطور، والعشاء بسد ذى القرنين، ويبيت إلى الصبح؛ فيصلي الصبح أيضًا بمكة.
فمنهم: مَن يطوي له الزمانُ، ومنهم: من يتسع له حتى يتلوا ما شاء من الذكر أو القرآن؛ كما صح ذلك من كرامات الصدراني موسى صاحب سيدي أبي مدين.
وكما حكى ذلك جمال الدين ولد شهاب الدين السهرودي في حجته المشهورة مع والده الشيخ المذكور, عام ثمانية وعشرين من القرن السابع وما أحسن قول أبي حفص عمر بن الفارض في تائيته في هذا المعنى:
وَفَّى سَاعَةٍ أَوْ دُونَ ذَلِكَ مَن تَلَى
بِمجمُوعِه تَلى فِيهَا أَلْفَ خَتْمَةٍ
وقد ذكر في ذلك الفرغاني، وصاحب مختصره أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد العزيز المراكشي عجب العجاب.
ولولا الاختصار لأتينا من ذلك بما يثلج الصدور، ويرفع الوهم والإشكال عمّن أراد الله به أن ينفع بهم ممن سبقت له من الله العناية، وإلا فلا نجاة للغريق بالتكذيب إلا أن يتفضّل الله عليه فينقذه بالمحبة والتصديق والتسليم.
وذكر أبو العباس أحمد بن محمد الورنيدي المعروف بـ ابن الحاج، والإمام أبو علي الحسن بن أبي القاسم في شرحه على نفحاته القدسية: إن الشيخ أبا مدين مَرَّ في سياحته ببعض سواحل البحر، فأسرته الروم، فجعلوه في السفينة، وفيها جماعة من أسرى المسلمين، فمدوا القلوع، فرست السفينة ولم تتحرك مع قوة الريح, فخافوا أن يدركوهم المسلمون، وقالوا: لعلّ هذا الشيخ من أصحاب السرائر، فأمروه بالنـزول.
فقال لهم: لا أنزل إلا إن أطلقتم كل من في أسركم من المسلمين، فلم يجدوا بُدًّا من ذلك، وأطلقوهم وحينئذٍ تحرّكت السفينة وسارت.
وذكر أبو علي حسن في شرحه على النفحات أيضًا قال أبو محمد صالح: سمعت الشيخ أبا مدين رضي الله عنهما في عامِ، أو قال: في سنةِ ستين وخمسمائة يقول: لقيت أبا العباس الخضر، وقد سألته عن مشايخ المشرق والمغرب في عصرنا، وعن سيدي عبد القادر فقال: هو إمام الصديقين، وحجة على العارفين.
قلت: وكُلاً من الشيخين؛ سيدي أبي يعزى، وسيدي أبي مدين كانا يعظِّمان الشيخ عبد القادر، وينوّهان باسمه، ويرفعان من قدْرِه، ولهم في ذلك عجائبٌ وغرائبٌ.
وكان هو يثني على سيدي أبي يعزى كثيرًا؛ كما نذكره في الباب الخامس من شهادة المشايخ له من أنه رفيع القدر، وأنه حاز قصب السبق على التمام.
ويحكى عن الشيخ أبي مدين: إنه كان له مقامٌ في المحبة عظيم، وربما تبرز منه في ذلك شطحات.
وذكر أبو علي حسن بن بادس في شرحه, وأبو العباس الورنيدي: إن الشيخ أبا مدين تكلّم يومًا في مجلسه، فجاءت طيورٌ ودارت حوله عاكفةً عليه، فتواجد وأنشد هذه الأبيات:
تَوجُّع مِمْرَاض وَخَوْف مُطَالب
وَإِشْفَاق مَهموم وَحُزْن كئيبِ
وَلوعة مشتاقٍ وَزُفْرة وَاله
وَسقطة مسقامٍ بِغَيْرِ طَبيبِ
وفِكْرَة جوَّالٍ وفطنة غائضٍ
لِيأخذ من طيبِ الصَّفَا بِنَصيبِ
أَلْمت بقلبٍ حيرته طوارقٌ
مِنَ الشَّوْقِ حتى ذلّ ذلٌّ غريبِ
يُكَابِدُ أَشْجَانًا وَيُخْفي مَحَبّة
ثوت واستكنت فِي فُؤَادِ حَبِيبِ
فهاج المجلس، وضجوا وما زال طائرًا منها يصفِّق بجناحيه حتى سقط ميتًّا، ومات رجلٌ من الحاضرين, قلت: والأبيات أصلهم للإمام ذو النون المصري.
يحكى عنه: إنه سأله رجلٌ: ما الذي أنصب العباد وأضناهم؟ قال له: ذِكر المقام وقلَّة الزاد، وخَوْف الحساب, ثم قال: ولِِمَ لا تذوب أبدان العاملين، وتذهل عقولهم، والعرض على الله أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم, والملائكة وقوف بين يدى الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار؟ ثم قال: مثِّلوا هذا في نفوسكم، واجعلوه نصب أعينكم، ثم أنشد الأبيات المتقدّمة، ولـذي النون في مثل هذا كثيرٌ.
ويحكى عن أبي على حسن بن محمد الغافقي الصوَّاف قال: حدثنى أبو مدين قال: صلّيت مع عمر الصباغ المغرب، فلما سلَّمنا قال لي: رأيت وأنا في الصلاة ثلاثًا من الحورِ أو أربعًا, وهن يتبخترنَّ في ركن البيت, فقلت له: أعد صلاتك فإن المصلي يناجي ربه، وأنت إنما ناجيت الحور العين, قلت: أراد أن ينقله إلى مقام أعلى من مقامه، وأدَّبه بقوله أعد صلاتك؛ لأن كل شيءٍ من دون الله من سائر المقامات حجابٌ حتى لا يقف مع شيءٍ ولا يسكن إلى شيءٍ.
وقد حكى عن أبي يزيد: إنه كُوشف بأربعين حورًا أحسن ما يكن, ثم قيل له: انظر إليهنَّ، فلما نظر إليهن حُجِبَ عن مقامه أربعين يومًا بقدر عددهن؛ تأديبًا له، ثم بعد ذلك كوشف بثمانين فوقهن في الجمال، فقيل له: انظر إليهنَّ، فغمّض عينيه وسجد، وقال: لا حاجة لي بهن دون الله.
اللهمَّ إني أعوذ بك مما سواك، وما زال يبكي يتضرَّع، وهو ساجدٌ إلى أن حُجِبْنَّ عنه، فحينئذٍ رفع رأسه، وله في ذلك مشاهدٌ ومواقفٌ شهيرة
وكان الشيخ أبو مدين رضي الله عنه مع اتساعه في المعارف والعلوم اللدُنية يحرِّض أصحابه على السلوك بكل وجهٍ أمكنه، ويحضّهم بكل إشارةٍ وكل لطيفةٍ.
يحكى عنه: إنه كان يومًا في مسجده الخاص بأصحابه أهل الذوق والمعارف، وهو يفيض عليهم على عادته في تلك الحقائق، ويأتيهم بكل عجيبةٍ تدل على القرب، وكل غريبة من أوصاف أهل الحب.
فبينما هم في ذلك مستغرقون، وإذا برجلٍ دخل عليهم شبه الملهوف أو مذهول فقدَّ المألوف, فقال لهم: يا رجال ما دخل عليكم هنا حمارًا؟ أو قال دابة، وهو في يده قضيب كان يسوقها به، فرفع بعضهم إليه رأسه، وقال له: يا هذا إن هذا مسجد، وما رأينا لك دابة، فسكت الشيخ وأطرق ساعةً، ثم رفع إليهم رأسه, وقال لهم: هل فيكم مَنْ عَشِقَ قط؟ ولم يكن يتكلَّم على العشق في تلك الساعة، فسكتوا ولم يجبه أحدٌ, إذ لم يعلموا مقتضى مراد الشيخ بقوله, ثم نظر بعضهم إلى بعض, ثم رجع الشيخ لقوله الذى كان يتكلم فيه إلى أن استوفاه, وختم المجلس وقام، فرجعوا جملة أصحابه يتأمّلون قوله: هل فيكم من عشق قط؟ فاتفقوا على أن معنى هذا السؤال: إن المحب يجب أن يطلب محبوبه في كل مكان، وأينما توجّه, كما فعل هذا البدوي طلب حماره حتى في المسجد.
ويحكى عن أبي الفضل فيما ذكره في نجمه قال: رأيت هذا السيّد أبا مدين في المنام أيام قراءتي للموطأ على خاتمة العلماء الأعلام شيخنا أبي عبد الله بن العباس، وذلك بمحل تدريسه، قال: رأيت كأني دخلت لزيارة سيدي إبراهيم المصمودي، فلما دخلت لمحل دفنه رأيت شيخًا مهابًا، وهو جالس نحو قبر السلطان المدفون بإزاء سيدي إبراهيم، فقيل لي، أو قال: خطر ببالي أنه سيدي أبو مدين، فتقدّمت؛ لأقبِّل يده، فقال لي: سلامٌ عليك، فتذكرت أني لم أقل: سلام عليك حين دخلت لما غلبني من الدهش اللاحق للداخل, ثم ناولني يده، وهي في كُمِّ ثوب من صوفٍ غليظٍ من لباس أهل مصر.
فلما قبَّلت يده دخلني بعض الأُنس به، فطلبت منه شيئًا لا أدري دعاءًا أو غيره، وكان على يمينه سجادة من جلد بقر الوحش، فأخذها بيده وناولنيها، فأخذتها بيدي, وانصرفت عنه، وفي قلبي من السرور ما الله أعلم به.