ولما كانت المعرفة تقتضي ظهور الحق في كل شئ حتى تراه ظاهراً في كل شئ بين الشيخ وجه احتجابه وخفائه
تعالى مع شدة ظهوره فقال :
(إِنَّمَا حَجبَ الحَقَّ عَنْكَ شِدَّةُ قُرْبِهِ مِنْكَ. إِنَّمَا احْتَجَبَ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَخَفِيَ عَنِ الأَبْصَارِ لِعَظِيمِ نُورِهِ)
قلت : ذكر في حكمة خفائه تعالى مع شدة ظهوره ثلاث حكم :
الحكمة الأولى : شدة القرب ولاشك ان شدة القرب توجب الخفاء كسواد العين من الإنسان فان الإنسان لا يدرك سواد عينه لشدة قربه منه والله تعالى اقرب إليك من كل شيء ، قال تعالى :{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}[ق-16]من حبل الوريد ، فشدة قربه منك موجب لاضمحلالك ، قال في لطائف المنن : فعظيم القرب هو الذي غيب عنك شهود القرب، كمن يشم رائحة المسك فلا يزال يدنو، وكلما دنا منها تزايد ريحها، فلما دخل البيت الذي فيه المسك انقطعت رائحته عنه" ، وأنشد يعض العارفين :
كم ذا تموه بالشعبين والعلم والأمر أوضح من نار على علم
أراك تسأل عن نجد وأنت بها وعن تهامة هذا فعل متهم
الحكمة الثانية : في خفائه تعالى شدة ظهوره، ولاشك أن شدة الظهور موجب للخفاء كما قال صاحب الهمزية، ومن شدة الظهور الخفاء ، وقد مثلوا ذلك بقرص الشمس حين يعظم شعاعه ويتقوى إشراقه فإن الأبصار الضعيفة لا تقوى على مشاهدته مع شدة ظهوره فصار شدة الظهور موجبا للخفاء كما قال الشاعر :
وما احتجبت إلا برفع حجابها ومن عجب ان الظهور تستر
فاحتجب عن الأبصار الضعيفة بلا حجاب .
الحكمة الثالثة : شدة نوره، ولاشك أن شدة النور موجب لعدم الإدراك، فإن البصر لا يقاوم النور الباهر ، وفي حديث مسلم في قصة الإسراء : "قُلْنا يا رَسُول الله، هَلْ رأيْتَ رَبَّكَ ؟ قال : نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ" ، أي غلبني النور كيف أراه. وفي رواية : "رأيت نورا" فيحمل على أنه أول مرة رأى نورا ثم لم يطق مشاهدته بالبصر مع تحقق شهوده بالبصيرة، وانظر أيضا البرق الخاطف فان البصر لا يطيق رؤيته وانشدوا :
بالنور يظهر ما ترى من صورة وبه وجود الكائنات بلا امترا
لكنه يخفى لفرط ظهوره حسا ويدركه البصير من الورى
فإذا نظرت بعين عقلك لم تجد شيئا سواه على الذوات مصورا
وإذا طلبت حقيقة من غيره فبذيل جهلك لا تزال متعثرا
وهذا النور الذي نتكلم فيه ليس هو حِسِّيًا، وإنما هو ما يبدو من معاني الصفات التي تخرج من ظلمة الجهل الى معرفة أسمائه وصفاته ، قاله الشيخ زروق ، قلت : "هو النور الأصلي الذي فاض من بحر الجبروت، إلا أنه تستر بالحكمة والعزة والقهرية" ، سئل ابو القاسم النصر باذي عن قولهم : ويظهر في الهوى عز الموالي، فيلزمني له ذل العبيد. فقال : عز المولى الستر، لأنه لو انهتك الحجاب لتفطر الألباب.
هذا آخر الباب السابع عشر وحاصلها ثلاثة أمور :
الأول : تلازم الدلالة على أولياء الله للدلالة على الله، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر في الغالب.
الثاني : تفسير أسرار الولاية، وهي الاطلاع على أسرار غيب الملكوت دون اشتراط الاطلاع على أسرار العباد؛ لأن ذلك قد يكون فتنة في حقه وسبباً في عقوبته إذا لم يتمكن من معرفته مع ما فيه من حظ النفس، فربما تقصده بطاعتها فيكون رياء في حقها، وهو من الأمراض الباطنية التي يصعب علاجها كالاستشراف إلى اطلاع الناس على خصوصيته، ودواؤه الغيبة عنهم والاكتفاء بنظر الله عن نظر غيره.
الأمر الثالث : علامة وجود هذه الأسرار في العارف، وهي شهود الحق في كل شيء، وفناؤه عن كل شيء، وإيثار محبته على كل شيء، فإن قلت كيف يشهد وهو غيب ؟ قلت : بل هو ظاهر في كل شيء، وإنما حجبه شدة قربه وشدة ظهوره وعظيم نوره، وإذا علمت أنه قريب وأنه أقرب إليك من روحك وقلبك اكتفيت بنظره واستغنيت بعلمه عن طلبه، فإن كان ولا بد من الدعاء فليكن عبودية ومناجاة وتملقاً، لا سبباً للعطاء، كما أبان ذلك في أول الباب الثامن عشر بقوله :
(لاَ يَكُنْ طَلَبُكَ تَسَبُّبًا إِلَى الْعَطَاءِ مِنْهُ فَيَقِلَّ فَهْمُكَ عَنْهُ ، وَلْيَكُنْ طَلَبُكَ لِإِظْهَارِ العُبُودِيَّةِ وَقِيَاماً بِحُقُوقِ الرُّبُوِبِيَّةِ)
قلت : قد تقدم في أول الكتاب، أن الطب كله معلول عند ذوي الألباب، فإن كان ولا بد من الطلب فليكن إظهار للعبودية وقياماً بحقوق الربوبية، فلا يكن طلبك من الحق سبباً إلى العطاء منه فيقل فهمك عنه، لأن الفهم عن الله يقتضي الاكتفاء بعمله والاستغناء بمعرفته، فلا يحتاج إلى شيء ولا يتوقف على شيء "ماذا فقدَ من وجدك" فلا يكن محط نظره إلا ما يبرزه من عنصر القدرة، ولا يشتهي إلا ما يقتضيه عليه مولاه، قيل لبعضهم : ماذا تشتهي ؟ قال : ما يقضي الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : لا يكن حظك من الدعاء، الفرح بقضاء حاجاتك دون الفرح بمناجاة محبوبك، فتكون من المحجوبين. وقال بعضهم : فائدة الدعاء إظهار الفاقة بين يديه والا فالرب يفعل مايشاء . قيل ان سيدنا موسى عليه السلام قال : يا رب أطعمني فاني جائع ، فأوحى الله اليه قد علمت ذلك ، قال : يارب أطعمني قال له حتى أريد. وهذا مقام أهل النهايات وأما أهل البدايات فيرخص لهم في طلب الحاجات وفي كثرة الدعاء والتضرعات، فالدعاء في حقهم واجب أو مندوب، وفيهم ورد الترغيب في الدعاء والإلحاح فيه قال تعالى : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر-60] وقال :{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ}[النمل-62] وورد في بعض الأخبار ان الله تعالى قال لسيدنا موسى عليه السلام : "سلني حق ملح عجينك" تشريعا للضعفاء لأن الأنبياء عليهم السلام بعثوا معلمين للضعفاء والأقوياء ، وينبغي أن يتأدب في الدعاء فلا يدعو بممنوع شرعاًk ولا ممتنع عقلاً ويكون بتلطف وانكسار، وظهور فاقة واضطرار لا بانبساط وإدلال، فإن ذلك مقام الرجل أهل المكانة والكمال، ومن ذلك قول الشيخ أبي الحسن رضي الله عنه في حزنه الكبير : "وليس من الكرم إلا تحسن إلا لمن أحسن إليك" الخ .
وذكر في قوت القلوب أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين فخرج سيدنا موسى عليه السلام بسبعين ألفاً من بني إسرائيل ليستسقي لهم، فأوحى الله إليه كيف استجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، وسرائرهم خبيثة، فدعونى على غير يقين، ويأمنون مكري ؟ ارجع إليهم فإن عبداً من عبادي يقال له برخ، قل له يخرج حتى أستجيب له، فسألهم عنه موسى فلا يعرفه أحد فبينما موسى عليه السلام يمشى في طريق، فإذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من السجود، وقد عقد شملة على عاتقه، فعرفه موسى عليه السلام بنور الله، فسلم عليه وقال : ما اسمك ؟ قال : برخ فقال له : منذ حين وأنا أطلبك، أخرج فاستسق لنا، فخرج فكان من خطابه لربه في دعائه ومناجاته : ما هذا من فعالك، وما هو من حكمك، وما بذلك عرفت، أنقصت عليك مائك ؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفذ ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين ؟ ألست كنت غفاراً قبل خطأ الخاطئين ؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطية فتكون لما تأمر من المخالفين، أم ترينا أنك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ قال : فما زال حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت الله العشب في نصف يوم حتى بلغ الراكب، قال : فخرج برخ فاستقبله موسى عليه السلام وقال له : ما هذا الخطاب الذي خاطبت به الحق ؟ فأوحى الله إليه دعه فإن دعائه يضحكني .
فانظر هذه الحكاية كيف وقعت هذه على بساط المباسطة التي لا يفهمها إلا أهل المكانة والتمكين، وحسب من لم يبلغ مقامات الرجال الأدب والهيبة مع رب العالمين .
ثم بين وجه ما ذكره من كون الدعاء إنما يكون عبودية لا سبباً في العطاء فقال :
(يَكُونُ طَلَبُكَ اللاَّحِقُ سَبَباً فِي عَطَائِهِ السَّابِقِ ؟ جَلَّ حُكْمُ الأَزَلِ أَنْ يُضَافَ إِلَى العِلَلِ)
قلت : العطاء السابق هو ما تعلق به علمه القديم قبل أن تظهر تجليات الأكوان، ولا شك أن الله سبحانه قدر في الأزل ما كان وما يكون إلى أبد الأبد، فقد قسم الأزراق الحسية والمعنوية وقدر الآجال قال تعالى : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49] وقال تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:8] وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}[آل عمران:145] فإذا علمت أيها الإنسان أن القضاء والقدر قد سبق برزقك وأجلك، وأنه قد سبقت قسمتك وجودك فماذا تطلب وإذا طلبت فكيف يكون طلبك اللاحق سبباً في عطائه السابق، إذ قد سبق منه العطاء قبل أن يكون منك الطلب، جَلَّ، أي عظم وتعالى حكم الأزل القديم أن يضاف إلى العلل والأسباب الحادثة، إذ محال أن يتقدم الحادث على التقديم، لا وجوداً ولا حكماً، قال ذو النون المصري رضي الله عنه :"التوحيد أن يعلم أن قدرة الله في الأشياء بلا علاج وصنعه لها بلا مزاج، وعلة كل شئ صنعه، ولا علة لصنعه، وليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما يخطر ببالك فالله مخالف لذلك" قوله : وعِلَّة كل شيء الضمير في صنعه يعود على الحق تعالى، أي علة كل شيء صنع الحق له، يعني أن سبب وجود الأشياء وظهورها هو صنع الحق لها، وصنع الحق لا علة له.
وقال بعضهم : "ليس في الإمكان أبدع مما كان: أي باعتبار العلم والمشيئة لا باعتبار القدرة، فالمراد بما كان القدر والقضاء السابق، فما كونته القدرة وأظهرته لا يمكن أن يكون أبدع منه من حيث تعلق العلم القديم، فلا يمكن تخلفه وإن كان العقل يجوز أن يخلق الله تعالى أبدع منه، والقدرة صالحة، ولكن لما سبق بع العلم ونفذ به القضاء لم يكن أبدع منه، أو تقول : ليس في عالم الإمكان أبدع مما كان فيما ظهر في عالم الإمكان، وهو عالم الشهادة إلا ما كان في عالم الغيب من المعاني القديمة، ولم يظهر أبدع منه ولن يظهر أبداً، فافهم، فالكلام صحيح على هذا الوجه والله تعالى أعلم.
ومما يدلك على أن طلبك ليس سبباً في عطائته بك قبل ظهورك الذي أشار إليه بقوله :
(عِنَايَتُهُ فِيكَ لا لِشَيْءٍ مِنْكَ , وَأَيْنَ كُنْتَ حِينَ وَاجَهَتْكَ عِنَايَتُهُ ، وَقَابَلَتْكَ رِعَايَتُهُ ؟ لَمْ يَكُنْ فِي أَزَلِهَ إِخْلاصُ أعمالٍ ، وَلا وُجُودُ أَحْوالٍ ، بَلْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلاَّ مَحْضُ الإِفْضَالِ وَوُجُودِ النَّوَالِ)
قلت : مما تواترت به الأخبار والنقول ووافق المنقول المعقول أن ما شاء الله يكون ومالم يشاء ربنا لم يكن، ومشيئته تعالى قديمة لأنها عين إرادته وإرادته على وفق علمه، وعلمه قديم، فكل مايبرز في عالم الشهادة فإنما هو ما قدره الحق في عالم الغيب، جفت الاقلام وطويت الصحف ، قال تعالى : {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}[الحديد:22] أي نُظهرها ، فلا سعادة ولا شقاء إلا وقد سبق بهما القدر والقضاء ، والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وقد تقدم قوله : "مَا مِنْ نَفَسٍ تُبْدِيهِ إِلاَّ وَلَهُ قَدَرٌ فِيكَ يُمْضِيهِ" فإذا علمت ذلك أيها الإنسان اكتفيت بعلمه السابق عن طلبك اللاحق، وبقي طلبك عبودية وأدبا مع الربوبية، وإلا فعنايته فيك سابقة على وجودك لالشيء منك تستحق به عنايته ومنته، وأين كنت حين واجهتك عنايته في أزله حين سبقت لك منه العناية وكتبك في جملة أهل الرعاية والهداية، ثم لما استنطقك يوم الميثاق أقررت بربوبيته، وأين كنت حين قابلتك رعايته وحفظه وأنت في ظلمة الأحشاء حين أجرى عليك رزقه من عرق الدم، وحفظك في ذلك المستودع حتى اشتدت أعضاؤك وقويت أركانك فأخرجك إلى رفقه ومايسر لك من رزقه، لم يكن في أزله حين واجهتك عنايته ولا في مستودعك في الرحم حين قابلتك رعايته، إخلاص أعمال ولا وجود أحوال تستحق بهما وجود النوال، بل لم يكن في ذلك الوقت الا محض الإفضال وعظيم النوال ، قال الواسطي رضي الله عنه : أقسام قسمت ونعوت أجريت كيف تستجلب بحركات او تنال بمعاملات ، وقال الشاعر:
فلا عمل مني اليه اكتسبته سوى محض فضل لابشيء يعلل
وقال آخر:
وكنت قديما أطلب الوصل منهم فلما أتاني العلم وارتفع الجهل
علمت بأن العبد لا طلب له فان قربوا فضل وان بعدوا عدل
وان أظهروا لم يظهروا غير وصفهم وان ستروا فالستر من اجلهم يحلو
وقال آخر :
قد كنت أحسب أن وصلك يشترى بنفائس الاموال والارباح
وظننت جهلا ان حبك هين تفنى عليه كرائم الارواح
حتى رأيتك تجتبي وتخص من تختاره بلطائف الامناح
فعلمت انك لاتنال بحيلة فلويت رأسي تحت طي جناحي
وجعلت في عش الغرام اقامتي فيه غدوي دائما ورواحي
ولهذا لم يلتفت قلب العارف لخوف ولا رجاء، ولم يبق له في نفس غير وجه الله حاجة، فتحصل أن الولاية وهي سر العناية لا تنال بحيلة ولا تدرك بطلب، لكن من سبقت له العناية يُسِّرَ لما أُريد منه.
قيل لذي النون : بم عرفت ربك؟ قال : عرفت ربي بربي ولولا ربي ماعرفت ربي . وقيل لعلي كرم الله وجهه : هل عرفت الله بمحمد أو عرفت محمدا بالله؟ قال لو عرفت الله بمحمد ماعبدته، ولكان محمد أوثق في من الله، ولكن الله عرفني بنفسه، فعرفت محمدا صلى الله عليه وسلم بالله.
وهنا انتهت معرفة العارفين، أعني حين تحققوا بسابق القدر، غابوا عن أنفسهم في وجود معروفهم، فاستراحوا واستظلوا في ظل الرضى والتسليم، وهبَّ عليهم من جنات المعارف نسيم، لكن اختلفت أحوالهم في حال نهايتهم، الماء واحد والزهر ألوان.
فمنهم : من يغلب عليه الهيبة والحياء، قال بعضهم : من ازدادت معرفته ازدادت هيبته له، ومن كان بالله أعرف كان له اخوف. وفيهم قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
ومنهم : من يغلب عيه الشوق والاشتياق، قال بعضهم : من عرف الله اتسم بالبقاء، واشتاق الى اللقاء، وضاقت عليه الدنيا بحذافيرها.
وقال السري : أجل مقام العارف الشوق. يقول الله تبارك وتعالى : إن لي عبادا من عبادي أُحبهم ويحبوني، وأشتاق اليهم ويشتاقون إليّ، وأذكرهم ويذكروني، وأنظر إليهم وينظرون إليّ ، من سلك طريقهم أحببته، ومن عدل عنهم مقته، قيل ياربنا وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون الى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنَّ الليل واختلط الظلام، وفرشت الفرش ونُصبت الأسرة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا أقدامهم وافترشوا إلي وجوههم، وناجوني بكلامي، وتمَلَّقواإليّ بإنعامي، فمن صارخ وباك، ومن متأوه وشاكٍ ، ومن قائم وقاعد ، ومن راكع وساجد ، بِعَيني مايتحملون من أجلي ، وبسمعي مايشكون من حبي ، أول ما أعطيهم ثلاثا : أقذف في قلوبهم من نوري فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم. والثانية : لو كانت السموات والأرض ومافيهنَّ من موازينهم لاستقللتها لهم. والثالثة : أقبل عليهم بوجهي، أترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد أن أعطيه .
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : غيبني الشوق يوما فقلت : يارب إن أعطيت أحدا من المحبين ماتسكن به قلوبهم فاعطني ذلك، فقد أضرني القلق. فرأيت في النوم كأنه أوقفني بين يديه وقال : ياإبراهيم أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك مايسكن قلبك قبل لقائي، وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه. فقلت : يارب تهت فلم أدر مااقول، فاغفر لي وعلمني ماأقول ، فقال : قل اللهم رضني بقضائك وصبرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك .
ومنهم : من تغلب عليه السكينة في القلب لأن العلم واليقين يوجبان السكون والطمأنينة، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته ، قال تعالى : {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28].
ومنهم : من يغلب عليه الدهش والحيرة، قال بعضهم : أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه . وفي الحديث : "الّلهُمَّ زِدْنِي فِيكَ تَحَيُّرًا".
ومنهم : من يغلب عليه التواضع والخضوع والذل والانكسار ، قال الجنيد : العارف كالأرض يطأها البر والفاجر، وكالسحاب يظل الأحمر والأبيض، وكالمطر يسقي الماشي والراشي.
ومنهم : من تتسع معرفته ويخوض بحار التوحيد فلا يكدره شيء ولا يسلط عليه شيء بل يأخذ النصيب من كل شيء ولا يأخذ من نصيبه شيء، يأنس بكل شيء ولا يستوحش من شيء، قال أبو تراب : العارف به يصفو كدر كل شيء ولا يكدره شيء . وقال أبو سليمان الداراني : إن الله يفتح للعارف على فراشه مالا يفتح له وهو قائم يصلي. وقال بعضهم : العارف من أنس بذكر الله حتى استوحش من خلقه وافتقر الى الله تبارك وتعالى فأغناه عن خلقه، وذل إلى الله تبارك وتعالى فأعزه الله في خلقه .
وفي زبور داوود عليه السلام : "يا داوود بلغ أهل رضائي أني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، وأنيس لمن أنس بذكري، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني، بعزتي حلفت ماأحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته أشد مما أحبني، ومن طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الارض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتى ومصاحبتي ومجالستي وانسوا بذكري أُؤنسكم بي، وأسرعوا إلى محبتي أسرعإلى محبتكم، فإني خلقت طينة أحبتي من طينة ابراهيم خليلي، وموسى كليمي، ومحمد صفي، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي وجمالي".