فصل في المعرفة
فالمعرفة على نوعين : معرفة بالعقل : يعني استدلالُ العقل بآياته الكُبرى وعلامته الصغرى، كقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف:185]، ومعرفة الحقِّ به : ولا يمكن هذه المعرفة إلّا بالشهود الصرف، والتجلّي المَحض.
فمعرفة الحق على قسمين : معرفة كسبيّة ومعرفة بديهيّة، وعند البعض كلُّها كسبيّة، وعند المحقِّقين بعضها كسبيّة وبعضها بديهيّة، فإذا وصل العارف إلى الحق، عرف الحق به، لقوله عليه السلام : (عَرَفْفُ رَبِّي بِرَبِّي) وعِند العقلاء معرفة كسبيّة إذا نظر العاقل بالعقل في الأثر فعرف الموثر بالآثار، وقدمه بحدوث المحدثات، وخلقه بالمخلوقات.
إذا عرف العارف المعروف الحقيقي به، فهو عارفٌ كامل محقِّق، وإن عرفه بأثره فهو عاقل مستدل، وكل شيء من الأشياء دليل على معرفة الحق، وهذه المعرفة فيها، وذاته تُعرف بصفاته، وصفاته بأسمائه، وأسمائه بأفعاله، وفعاله بآثاره، لأن الأثر يدل على الموثر، ولا تعرف ذاته من حيث الذات أبدًا إلا من حيث الوجود أنه موجود، وأنه واجب الوجود، فإذا عرفت هذا فاعرف الحق في الخلق، فإنه في الخلق ظاهر، لأن وجوده منبسط في أعيان الموجودات، فالوجود في الممكنات ظاهر الحق، فانظر في الموجودات واشهده فيها، لأنه ظاهر فيها، فأسمائه وصفاته وأفعاله وآثاره فاعرفه فيها واشهد بها، فإن العالم مرآت له ظهر فيه، والعالم آيات الله، فلا يُعرف الحق إلا بآياته، ولا تُعلم آياته إلا بالإحاطة الكليَّة، والإحاطة لا تُمكن، والمعرفة لا تمكن، ولكل آية علمٌ لازمٌ لها، وأن كل آية دليل على ذاته وعلى علم من معلوماته، فهذا الدليل يحصل العلم به، والكل دليل علم من علم الحق، وعلم الحق غير متناهي، فالمعرفة هكذا فافهم هذا المعنى، فإن فيه لطائف كثيرة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].