ثم رجع الشيخ رضي الله عنه لأول السورة فقال : قال تعالى : (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ثم قال الشيخ رضي الله عنه : قال تعالى : {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9).}[يس]
قلت : وإنما تلي الشيخ هذه الآية لأن سر الافتتاح يسري في كل السورة، ومدار السورة على مقدمتها، فالحرفان الأولان ترجمة ما تدور عليه السورة من الولاية، والسلامة، وظهور معنى اسمه السلام بعد الولي، وبيان ذلك أنه افتتح بعد ذلك بقسمه بالقرآن الحكيم على أنه صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه على صراط مستقيم، وأن ذلك الصراط المستقيم تنزيل الذي لا يذل من ولاه، الرحيم الذي يسلم من تولاه، وأن ذلك لينذر قوما لم يسبق إليهم ولا لآبائهم إنذارا، فهم قول غفل، وإن ذلك إنذار وإعذار، وتنبيه لمن أراد الله نفعه، وإلا فقد حق القول على اكثرهم فهم لا يؤمنون .
وإنما يؤمن ويتعطف الأقل الذي أراد الله به الإحسان، فهو إخبار عن تسليمه لنبيه وسلامته وولايته له، ولعامة المؤمنين من عباده . ثم انظر كذلك الى آخر السورة تجده متتابعا، مسترسلا في المعنى، ومتحدا في السر والمبنى إلى قوله تعالى : {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:83] .
نعم، وجميع ما في القرآن يدور على ما ذكر من الولاية، والتسليم بمعنى انه مقصود له، ومن ثم جاء في الحديث الشريف : (قلبُ القرآنِ يَس ) كما رواه الترمذي وغيره . قيل : وقلب يس { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس:58-59] . فان قلت : فلم آخر السورة عن الآية التي بعدها، وقدم الآية التي بعدها قبلها ؟ قلت : إنما أتى بالآية أولا استطرادا، ثم ذكر أول السورة استذكارا، وكأنه تنبيه على أن معنى ما ذكر سار في كل ما ذك، والأخذ منه بحسب المقاصد، ولا يضر التقطع إذا لم يكن مقصودا للتحويل، ولم يفهم تغير النظم، والله أعلم .
ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (شَاهَتِ الْوُجُوهُ،شَاهَتِ الْوُجُوهُ، شَاهَتِ الْوُجُوهُ)(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
قلت : شاهت الوجوه يعني ذلت، وخضعت، وخابت، وخسرت، فانصرفت بغير مرادها، مقهورة، مغلوبة . وهذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين قابل الجيش بعد جولة المسلمين، وافتراقهم عنه لظنهم موته، إذ صرخ الشيطان، فأخذ صلى الله عليه وسلم كفًّا من الحصى، ورمى بها وجوههم قائلا : (شاهت الوجوه) فما منهم رجل إلا وجاء في عينيه الحصى المرمي به، وانهزموا فارين وهو صلى الله عليه وسلم يقول :
أنا النبي لا كذب * أنا بن عبد المطلب
وأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك :( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ) الآية، فهي موضوعة لهزم الجيوش، وصرف العدو تأسيا بالسنة، وعلى ذلك جرى الشيخ في سياقها، إذ الحقها بآية صرفها الأعداء، وطمسهم طلبا للنصرة في الجملة، واتباع ذلك بقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) واستطرادا لذلك وتنبيها ان كل من دونه محتقر، إذ معنى عنتك : ذلت وخضعت. والحي القيوم، هو الله سبحانه وتعالى، فهو حي لا يموت، وكل من دونه من حي يموت . فالحي الذي يموت حياته مستعارة لا حقيقة لها إلا بالحي الذي لا يموت . فالحي الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، ومن سواه لا حياة له وأن كان حيا، لأنه معه كالميت في الوجود، ولا حركة إلا به، وان كان له وجد من القدرة فلا أثر لها .
والقيوم هو القائم بنفسه الذي لا يجوز عليه الافتقار، والقائم بغيره الذي كل شيء مفتقر إليه في قيام ، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، أي المجازي لها بما فعلت، فالحي القيوم من الأسماء العظيمة، أسماء الذات الكريمة، قيل : وهي اسم الله الأعظم، وهو الذي دلت عليه الأحاديث، وشهدت به حقائق المعاني. وفي حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها : اسم الله الأعظم في آل عمرن والبقرة - وزاد غيره - وطه - وقول الشيخ رضي الله عنه : (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) يعني في الدنيا بعدم النصر، وانتفاء التأييد، وفي الآخرة بالطرد والعذاب الشديد، فهو متوعد بالخيبة في الدارين، ثم لابد من آخذة لا ينفعه فيها شيء، ولا يزال الله ينتقم من ظالم بظالم حتى ينتقم منهم جميعا، قال تعالى : {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.[الأنعام:129] وهذا كله على معنى الخبر في الآية، ويكون الشيخ رضي الله عنه أتى بها استطرادا وبناء على حسن الظن بالله، ويكون بمعنى الدعاء عليهم بالخيبة فيما هم به، فانظر ذلك وافهم.