ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (انصُرنَا فإنَّكَ خيرُ النّاصِرِينَ، وافتَحْ لنَا فإنّكَ خيرُ الفَاتِحينَ ، واغفِرْ لنَا فإنَّكَ خيرُ الغَافِرينَ ، وارحَمْنا فإنّكَ خيرُ الرّاحِمينَ ، وارزُقنا فإنّكَ خيرُ الرّازِقينَ ، واهْدِنَا ونَجِّنَا مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وهَبْ لنَا رِيحاً طيّبةً كما هيَ في عِلمِكَ ، وانشُرْها علينا مِنْ خَزَائِنِ رحمتِكَ ، واحمِلْنَا بِها حَمْلَ الكرامةِ معَ السّلامةِ والعافيةِ في الدّينِ والدُّنيا والآخرةِ إنّكَ على كلِّ شيءٍ قدير) .
قلت : هذا تفسير لموقع التسخير بماذا يكون , كما ان قبله رمز واجمال له , فهذه الجملة تفصيل وتفسير في تفضيل , فالنصرة من بساط الكفاية , والفتح من بساط الهداية , والرزق من وجوه الولاية , والرحمة والهداية من عين العناية , والنجاة من صدق الوعد , قال تعالى : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}, وذكر الريح الطيبة رجوع للحاجة المناسبة , وكونها ريحا طيبة هو المقصود لا مطلق الريح , إذ قد تكون مهلكة , بل كل ما جاء في القران من الريح بالأفراد , إنما جاء بالإهلاك غير ما قيد في قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) في مقابلة قوله تعالى : ( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ) فافهم .
وقوله : ( كَما هيَ في عِلمِكَ ) : تبري من الاقتراح بتعيين المطلب , ورجوعا للتفويض في تعيينه , وكأنه يقول : الريح الطيبة في علمك هبها لنا , كان ذلك موافقا لعلمنا او مخالفا له , لأنه لا يعلم النافع والأنفع على الحقيقة إلا أنت , فإنا قد نحب الشيء وهو شر لنا , ونكره الشيء وهو خير لنا , وقد وقع علينا من ذلك أنا قد توقف علينا الريح , فكان جماعة منا يطلبون الريح الأريب لاعتقادهم أنه الموصل إلى طيب , وكنا نتجنب اقتراضهم في ذلك خوفا مما ذكرنا من ذلك , وربما نهيتهم عنه , فآتى الله بأريب عاينا منه الغرق , ولولا غيره جاء في الحال لكان ذلك , فرجع عقالهم لطلب الريح الطيبة على الإطلاق , فاسترحنا , واستمر الآمر والعافية .
ثم قوله رضي الله عنه : (وانشُرْها علينا مِنْ خَزَائِنِ رحمتِكَ) : يعني , واجرها لنا بالرحمة , ومن عين الرحمة , لا بالغضب , ولا من عين الغضب , لأنه تعالى قد يرحم بما به يعذب , وبعذب بما به يرحم , وقد أهلك الله قوم عاد بالريح , وسخرها لسليمان عليه السلام , فكانت من النعم في ملكه ,و أجراها كذلك في البر والبحر , وكذا سائر الأسباب الجارية , يرحم بها قوما ويعذب بها قوما آخرين , فإذا جرت من بساط الرحمة كانت نعمة , وإذا جرت من بساط الغضب كانت نقمة , ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول عند هيجان الريح : ( اللهم لا تهلكنا بسخطك وعقابك وعافنا قبل ذلك ) وقد يكون طلبه من بساط الرحمة لا بسبب ولا بعلة .
وقوله رضي الله عنه : (واحمِلْنَا بِها حَمْلَ الكرامةِ معَ السّلامةِ والعافيةِ في الدّينِ والدُّنيا والآخرةِ) يعني واحملنا بالريح حمل الكرامة التي حملت بها آدم وبنيه , ونوحا وذريته , فقلت وقولك الحق : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) . واحترز بحمل الكرامة من حمل الإهانة الذي سلط على قوم عاد , اذ كانت تحمل البعير بحمله , قال تعالى : ( مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) . والسلامة, نفي العوارض والآفات حتى لا يلحقه شر ولا ضر . والعافية , خلو الوقت عن الانزعاج , والاضطراب , والتغلب , ثم إن كان بالسكون إلى الله والرضى عنه فعي العافية الكاملة . وان كان بجريان الأسباب الموافقة فهي العافية العادية , والسلامة في الدين بامتثال الأوامر , والاستسلام للقهر من غير مناف , ولا معارض . والسلامة في الدنيا , بجريان الأغراض على الموافقة , ونفي العوارض عن كل حالة موافقة . ويجمع ذلك العيشة الهنية والحالة المرضية , لأنه لا يتم أمر الدنيا والآخرة إلا بالهناء , حتى إن أهل الجنة في الجنة لولا قوله تعالى : (هَنِيئًا ) بعد : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) ما صح كونه منة عليهم .