ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنا أُمُورَنا * مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنا وأَبْدانِنا * وَالسَّلامَةِ وَالعافِيَةِ فِي دُنْيانا وَدِينِنا * وَكُنْ لَنا صاحِبًا فِي سَفَرِنا * وَخَلِيفَةً فِي أَهْلِنا * وَاطْمِسْ عَلَى وُجُوهِ أَعْدائِنا * وَامْسَخْهُمْ عَلَى مَكانَتِهِمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ المُضِيَّ وَلا المَجِيءَ إِلَيْنا) .
قلت : لما سأل الشيخ رضي الله عنه العافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة، سأل التيسير في مع ذلك في الأمور، لأنه ليس لازم لهما ولا عبرة به إلا معهما، وكل ذلك دون راحة القلب والجوارح لا فائدة فيه .
وإنما قدم ذكر الدنيا على الآخرة لأن السلامة والعافية فيها أصل في تحصيل الآخرة، وكمال فضائلها، إذ لا كمال مع فساد الطبيعة، ولا راحة من مزعجات النفس، ولابد من علم وعقل وعيش في جميع الأحوال، ولذلك قال سيدي بن عطاء الله في الحكم :"مِنْ تَمامِ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ أنْ يَرْزُقَكَ ما يَكْفيكَ وَيَمْنَعَكَ ما يُطْغيكَ. لِيَقِلَّ ما تَفْرَحُ بِهِ، يَقِلَّ ما تَحْزَنُ عَلَيْهِ". انتهى .
وإنما سأل رسول له صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل قوته كفافا بكفاف حتى لا يكون له عدم مزعج، ولا وجود مشغل، ويرحم الله أبا علي الثقفي رضي الله عنه حيث قال : أف لأشغال الدنيا إذا أقبلت، ولحسرتها إذا أدبرت، والعقل لا يركن إلى شيء إذا أقبل كان شغلا، وإذا أدبر كان حسرة .
وانشدوا في ذلك :
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة وإن أقبلت كان كثير همومها
وقول الشيخ رضي الله عنه : (وَكُنْ لَنا صاحِبًا فِي سَفَرِنا * وَخَلِيفَةً فِي أَهْلِنا)
يعني لا نظلم ولا نضام، ويجري الخير فيما خلفنا كما هو معنا، وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (اللّهُمَّ أَنتَ الصّاحِبُ في السَّفرِ والـخَليفَةُ في الأَهلِ والـمالِ) . والخليفة، هو كافل الأمر وكافيه بعد مستحقه بتوكيله .
والصاحب الملازم بإبداء المنافع ودفع المضار، وإطلاقها في حق الباري سبحانه على معنى الكفاية، والكفاية بزيادة الرحمة، والإعانة، وإجراء المنافع، ودفع المضار، ولولا أن الشارع أتى بهذين اللفظين ما صح إطلاقها على أحد، وإنما أطلقها الشارع تقريبا للأفهام.
ثم اختلف العلماء في جواز ذلك لغيره اعتبارا بالمعنى وعُرف التخاطب، أو اتقاء مواقف الشبهة والإشكال، فتدبر ذلك واعرفه .
وقول الشيخ رضي الله عنه : (وَاطْمِسْ عَلَى وُجُوهِ أَعْدائِنا) معناه رد وجوههم على أدبارهم، حتى لا يمكنهم التصرف على وجه يريدونه، ولا بوجه مستقيم، قال تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) ، فجعل تفسير الطمس بردها على أدبارها، فانظر تفسيره .
وقوله : (امْسَخْهُمْ عَلَى مَكانَتِهِمْ) يعني الزمهم إياها عجزا وضعفا فلا يستطيعون المضي عن أماكنهم لغيرها، ولا المجيء إلينا فيستريح غيرنا منهم كما نستريح.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه آية الطمس والمسخ والتغشية فقال : قال تعالى : (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) .
قلت : وإنما تلى هذه الآية بعد الدعاء بمقتضاها تحقيقا لما تقتضيه من جواز إيقاع ذلك، واستدلالا لطلبه إياه، وتبركا بالآية في حصول المقصود منها في حق الأعداء، وإشارة، لأن وقوع ذلك من خاصيتها، لأن كل ذكر فخاصيته في معناه، وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده، وعلى نحو ذلك جرى كل أو جل من تكلم في الخواص بطريق القياس والنظر، كالقاضي التميمي، والشيخ أبو العباس البوني، وغيرهما والله أعلم .
وقد تقدم معنى الطمس والمسخ ومتى طمست الأبصار امتنع الإبصار، فاستبق أهلها الصراط لينفذوا فلم يجدوه، وإن وجدوه لم يصلوه، وإن وصلوه لم يقدروا النفوذ عليه، ولكنهم ممنوعون من ذلك لطمسهم ومسخهم .( فَأَنَّى ) أي : كيف يبصرون مع ذلك.