آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تُحفةُ السَّالِكِين ودَلاَلَةُ السَّائِرِين لِمنْهَجِ المُقَرَّبِين -14

الباب الثالث
في بيان الطرائق الموصلة إلى الله تعالى وأركانها
وما يتعلق بذلك كله، وكيف السلوك
إلى ملك الملوك حسب ما قالوه
على الوجه الذي ذكروه


اعلم أن المُراد بسلوك الطريق تتبع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها، والمريد الواصل إلى الله تعالى هو الذي تخلّى عن أوصافه الذميمة وتحلى بالأوصاف الحميدة.


فالأوصاف الذميمة كالجهل والغضب، والحقد والحسد، والبخل والتعاظم، والتنكير والعجب، والغرور والرياء، وحب الجاه والرياسة، وكثرة الكلام والمزاح، والتزيين للناس والتفاخر، والضحك والخيلاء، والتهاجر وتتبع العورات، والأمل والحرص، وسوء الخلق، وكل ما نهى عنه الشارع.


والأوصاف الحميدة كالعلم والحلم، وصفاء الباطن والكرم، والتذلل والرفق، والتواضع والصبر، والشكر والزهد، والرحمة للخلق، والحب في الله والبغض في الله، والتأني في الأمور، والبكاء والحزن، وحب الخمول والعزلة، وسلامة الصدر والنصح، وقلّة الكلام والخشوع والخضوع، وانكسار القلب وحسن الخلق، والتخلُّق بما ورد في الشارع  من الصفات المحمودة.


فإذا اتصف المريد بأوصاف الكمال وخلص من قبيح الفعال فهو التقي قد وصل إلى الملك المتعالي، من أصحاب الأحوال الذين قطعوا المنازل والأهوال وترقوا مقامات الرجال، فهم النطف الطاهرة أصحاب الاستعدادات الكاملات والطباع السليمة، الذين لا رغبة لهم في لذة الدنيا ولا في نعيم الآخرة، قلوبهم متوجهة إلى مليكهم لا يسكنون إلّا إلى ذكره ولا يتقوّتون إلّا بتلاوة اسمه.


فأوّل شيء يلزم مريد الطريق، معرفة الله عز وجل، بأن يعرف ما يجب في حق مولانا جل وعز، وما يستحيل وما يجوز، وكذا يجب عليه أن يعرف مثل ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم باب الطهارة والصلاة والصيام والتيمم وما يحتاج لله السير، ثم يتعلّم من القرآن ما لا بدّ منه ولا غناء في كل حال عنه مقتصرًا منه على قدر الكفاية.


يَرجع عن الذنوب ويجدد توبة بشروطها المعتبرة، ويطهر قلبه من نحو الكبر والعجب، والحسد وسوء الظن، متحققا بما يمكنه من أصول الطريقة، ومن ذلك إسقاط التدبير وكمال التسليم والرضى عن الله في كل ما يرد عليه من نحو فقر أو سقم أو إيذاء، ويقطع العلل التي تنقص العمل وتبطله والخروج عن الله والعلائق، والتحقق بالسنة قولا وعملا، ومن ذلك الملازمة على صلاة الضحى وصلاة الأوابين بين المغرب والعشاء، وصلاة الليل والوتر والسنن الراتبة، وما دام في حال بدايته لا يفطر يوما واحدا إلا لضرورة، ولا يأكل في اليوم والليلة أكثر من مرة، ولا يمكث ساعة من ليل أو نهار على حدث البتة، وإذا مشى في الطريق لا يتعدّى بصره محل القدمين، ويزيل ما في الطريق من الأذى، ويبدأ السلام، ولا يهجر من جفاه، ولا يطعن في أعراض الناس، رثيت الثوب ذو جيب، ويعين ذا الحاجات، ولا يدخل الحمام إلا لضرورة لازمة، ولا يدخل مداخل التهم، وعليه بصيانة عرضه، ولا يصلي الفرض إلا بجماعة في أول الوقت بأذان وإقامة، ولا ينام الثلث الأخير من الليل لأنه دأب الصالحين، ولا ينام ليلة الجمعة مطلقًا بل يحييها بقراءة الكهف والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتحمّل الأذى من الناس كما تحملت الأولياء والأنبياء من قبله، ولا يؤذي أحدًا، ولا يدعو على أحد، بل يفوض أمره إلى الله، كأن ما أحدًا أذاه، ولا يضع عمامته تحت رأسه، ولا يفرش ما يوضع على الكتف تحته، ولا يبول في غيرالمعد لقضاء الحاجة حيث وجد غيره وما يعد للعبادة، ينزه عن أحوال العادة، ولا يرمي سبحته بالأرض، بل يعلقها في عنقه أو على وتد، وإن كان له كسب حلال لزمه القيام به لنفسه وعياله، ولا يعمل فوق كفايته، ولا يقصد التصدق بما زاد عنه، بل سلامة الدين مقدمة على ذلك، ويتورع عن كل ما فيه شبهة، وإذا كثرت منه العبادة واشتهر أمره بالصلاح وكثر الناس عليه بالزيارة والتبرك به قبل كماله وبلوغه الطريق لزمه الفرار منهم، ويعمل على الخمول، ويحرص أن لا يعرف حاله غير ربه، ولا يجيب دعوة أحد إلا أن تكون واجبة، ولا يزور أحدًا، ولا يأكل من وليمة مطلقًا، وإذا أكل ما فيه شبهة استقاء، ولا يلزم أن لا يُرى إلا في المسجد، أو عيادة مريض، أو جنازة، أو ما كان فيه نفع له وللمسلمين، وعليه أن يقدم مصالح الناس على مصالح نفسه المندوبة، ويجعل أصله الذي بنى عليه عمله دوام الشهود، وتوحيد الأفعال بأن المحرك والمسكن هو الله، والتحقق بالذل والعجز والانكسار، وملازمة الخشوع والخضوع والدموع وصدق الولوع بشدة الطلب، وإيثار المجاهدة. ويزال كذالك والله يؤيده ويهديه ويوفقه إلى ما يرضيه.


أول  السابق   التالي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية