وأما كلام السلف الصالح في القدر : فمما اشتهر على ألسنتهم : "ما شاء الله كان، وما لم يشأ ربنا لم يكن". وقيل أنه حديث. وقال عمربن عبد العزيز رضي الله عنه : "أصبحت ومالي سرور إلا في موقع القدر".وقيل لبعضهم : "ما تشتهي ؟ قال : ما يقضي الله". وقال ابن عطاء الله في الحكم: "مَا مِنْ نَفَسٍ تُبْدِيهِ إِلاَّ وَلهُ قَدَرٌ فِيكَ يُمْضِيهِ". وقال أيضا : "كَيْفَ يَكُونُ طَلَبُكَ اللاَّحِقُ سَبَباً فِي عَطَائِهِ السَّابِقِ ؟ جَلَّ حُكْمُ الأَزَلِ أَنْ يُضَافَ إِلَى العِلَلِ . عِنَايَتُهُ فِيكَ لا لِشَيْءٍ مِنْكَ , وَأَيْنَ كُنْتَ حِينَ وَاجَهَتْكَ عِنَايَتُهُ ، وَقَابَلَتْكَ رِعَايَتُهُ ؟ لَمْ يَكُنْ فِي أَزَلِهَ إِخْلاصُ أعمالٍ ، وَلا وُجُودُ أَحْوالٍ ، بَلْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلاَّ مَحْضُ الإِفْضَالِ الأفضال ، وَعَظيمُ وُجُودُ النَّوَالِ ."يعني أن قضاءه لك السابق في عالم الغيب، هو الذي ظهر لك في عالم الشهادة، ولم يكن منك في ذلك الوقت عمل تستحق به العطاء، ولا حال تستحقُ به التقريب، أو الوصول، وإنما أعطاك ما أعطاك فضلا منه وجودا والله ذو الفضل العظيم. وقال أيضا رضي الله عنه : "إِلَى الْمَشِيئَةِ يَسْتَنِدُ كُلُّ شَىْءٍ وَلاَ تَسْتَنِدُ هِىَ إِلَى شَىْءٍ".
واعلم أن الناس في النظر إلى القضاء السابق، والحكم اللاحق أربعة أقسام :
قسم : نظروا في السابق لعلمهم بأن حكم الأزل لا يتغير باكتساب العبد.
وقسم : نظروا إلى العواقب لعلمهم بأن الأعمال بخواتمها.
وقسم : نظروا للوقت، لم يشتغلوا بالسوابق، ولا بالعواقب، غير أداء ما كلفوا به من حكم الوقت، عالمين بأن الفقير ابن وقته، لا يرى ير الوقت الذي هو فيه.
وقسم : نظروا لله وحده، لعلمهم أن الماضي والمستقبل متقلبان في قبضة الحق متصرفان بحكمه، والأوقات كلها قابلة للتغيير، وتبديل الحال، فلايرونها، وإنما يشاهدون كل شيء بيده؛ وهذا القسم قد استراح من كدر التدبير لغيبته عن شهود المدبر، عن سابق التقدير، بخلاف الثلاث الأولى قد غلب عليهم شهود الفرق. فالأول : أذهله خوف السوابق. والثاني : أدهشه خوف العواقب والخواتم. والثالث :غيبه حم الوقت، وشهود أحكامه عن شهود الموقت. والرابع : لما كشف عنه الحجاب، وشاهد رب الأرباب، شغله شهود الواحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الله شيء، ولذلك قالوا : "الصوفي من لا يرى من الدارين غير الله؛ ولا يشاهد مع الله سواه، قد سخّر له كل شي، ولم يُسخَّر هو لشيء، يصفو به كدر كل شيء، ولم يكدر صفوه شيء، شغله الواحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء".
والحاصل : أن من أراد الراحة الدائمة فلينطرح بين يدي الله ، وينظر في كل وقت ما يبرز من عند الله، ويسكن تحت مجاري الأقدار له، ولينعزل عن تدبيره واختياره، ويتأمّل ما قاله القطب سيدي يقوت القرشي (1):
ما ثَمَّ إلا ما أرادْ فاتركْ همومَكَ وانْطَرِحْ*واتْرُكْ شَوَاغِلَكَ الَّتِي اشْتغَلَتْ بِهَا عَنْهُ تَستَرِحْ
*** ***
1 - الشيخ الصالح أبو در ياقوت بن عبد الله الحبشي القرشي ولد بالحبشة وأتى إلى الإسكندرية وصحب الولي أبو العباس المرسي وتزوج بنته وسماه بالعرشي لأنه كان دائما متعلقا بالعرش وخلف في الطريقة شيخه أبا العباس المرسي سنة (732ه).