آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شرح منازل السائرين عبد الرزاق القاشاني -26

باب الاعتصام


قال الله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}[آل عمران:103]


"العصمة" : الحماية. و"الاعتصام" : الاحتماء. ومعنى الاعتصام بحبل الله : الاحتفاظ بطاعته، ليحمى المعتصَم عن المخالفة. وقد يطلق "الحَبْل" على العهد، وعلى القرآن استعارة، فإنَّ من اعتصم وتمسَّك بالقرآن حماه عن الزيغ والضلال، ومن تمسَّك بالعهد حماه عن الغدر والوبال. وأما الاعتصام بالله : فهو الاحتماء به عن كلِّ ما سواه، ليُخَلِّصَه عن رقِّ الغير، ويَحْمِيَهُ عن الشر؛ فإنه هو المولى، لا غير.

قال :

الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى طَاعَتِهِ، مُرَاقِبًا لِأَمْرِهِ.وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ هُوَ التَّرَقِّي عَنْ كُلِّ مَوْهُومٍ، وَالتَخَلُّصُ عَنْ كُلِّ تَرَدُّدٍ.


إنّما قدّم "الاعتصامَ بحبل الله تعالى" لأنه حالُ أهل البداية، وفسّره بالمحافظة على طاعته في حالة كون العبد مراقبا لأمره".

و"المراقبة للأمر" دوامُ نظر القلب إلى أمر سيِّده امتثالا، لا خوفاً ولار رجاءً، أي لنفس كونه أمر سيِّده، لا غير.

وقد ورد في المواقف : (أوقفَني وقالَ لي : إذدا أمرتكَ بأمرٍ، فامْضِ لِما أمرتكَ بهِ وَلا تنتظر بهِ علمَه؛ إنك إن تنتظر بأمري عِلْمَ أمري تَعْصَ أمري. فإنك إن لم تمضِ لِما أمرتك به حتّى يبدو لك علمُه، فلِعلم الأمْر أطعْتَ، لا لِلأمْرِ.

فالاعتصام بحبل الله هو المواظبة على امتثال الأمر نظراً إلى أنه أمر سيِّده، لا طلباً للحظِّ، ولا حَذَراً من البَطشِ.

وَأمّا"الاعتصام بالله" فهو أعلى منه، وفسَّره بأنه :

"الترقِّي عن كل موهوم" أي عن كلِّ ما سوى الحقِّ، فإنَّ وجودَ الغير موهومٌ لا تحقُّق له.

و "التخلُّص عن كلِّ تردُّد" باليقين العياني؛ فإن التردُّد من لوازم الشك، ومن تحقَّق بالحقِّ في مقام الشهود، لا يحوم الشكُّ حولَ مقامه.

قال : 

والِاعْتِصَامُ على ثَلَاثِ دَرَجَات : اعْتِصَامِ الْعَامَّةِ بِالْخَبَرِ، اسْتِسْلَامًا وَإِذْعَانًا،​. بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ وَتَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَأْسِيسِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الْيَقِينِ وَالْإِنْصَافِ، وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ.


قسّم الاعتصامَ المطلق على ثلاث درجات :

الدرجة الأولى الاعتصام بالخبر الوارد من الله تعالى - يعني إخبار الكتاب والسنَّة بالوعد والوعيد، طوعاً وانقيادًا بتصديقه والإيمان به - و"الاستسلام" الطاعة والانقياد. و"الإذعان" الانقياد مع الخضوع - و"تعظيم الأمر والنهي" بالامتثال والانتهاء موافقة للحكم.

وجعل اليقينَ والإنصافَ أساسُ المعاملةُ عليه. وَ"اليقين" هو الاعتقاد الجازم المطابق، الذي لا يحتمل النقيض، فإن من اعتراه الشكّ في معاملته انهدم بناؤه.

وسَألَ أعرابيٌّ مُعاذا رضي الله عنه فقال : (ما تقول في رجل كثيرِ العملِ، قليلِ الذنوب؛ إلّا أنّه يَعتوره الشكُّ ؟ قال معاذ : لَيحبِطَنَّ شكُّه عملَه. فقال الأعرابيُّ : ما تقول في رجل قليل العمل، كثيرِ الذنوبِ؛ إلّا أنه على يقينٍ من ربِّهِ ؟ فسكتَ معاذ. فقال الأعرابيُّ : والله لئن أحبط شكُّ الأوَّل عملَهُ، ليحبطنَّ يقينُ هذا ذنوبَه. فقال معاذ : قد فقُه الرجل).

وأما "الإنصاف" فهو إما إنصاف العبد لربِّه : بأن يعلم أن الذلَّ والايتمار للعبد؛ والعزَّ والحُكمَ للسيِّد. فيختار الذلَّ والانقياد لنفسه، ويترك العزَّ والحكمَ لصاحبه.

وإمّا إنصافه لمخلوق مثله : بأن لا يطمع في ماله ويوفيه حقَّه، ويردَّ إليه مظلمتَه، ويكفَّ عنه أذى نفسه، ويحتملَ أذاه ويتواضع له، ويصونَ عِرضه.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية