آخر الأخبار

جاري التحميل ...

المُعْزى في مناقب الشيخ أبي يَعْزى -33

ومما يحكى عنه من علومه الغامضة: إنه وقع اختلاف بين فقهاء بِجاية، ونزاع شديد في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: «إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِن أُعْطِي نِصْفَ الْجَنَّة».

فإن الظاهر يقتضي أن المؤمنين إذا ماتوا استحقُّوا كل الجنة بكمالها، ولما أشكل عليهم هذا قالوا: ما لهذا إلا صديق! ولا هنا في هذا العصر أكبر من أبي مدين، ففزعوا إليه، وأتوه لما يعلمون من تحقيقه وتدقيقه في المعارف والعلوم، فدخلوا عليه وكانوا قبل ذلك يحلّ لهم ما أشكل عليهم من مثل هذا، فوجده في مجلسه وهو يتكلَّم على رسالة القشيري.

فلما استقر بهم المجلس عدَل عما كان فيه من القراءة، قال لهم: هل أتيتم لما أشكل عليكم من ظاهر الحديث؟ فعلموا أنه كاشفهم فقالوا له: نعم.

قال: إنما أراد رضي الله عنه أن المؤمن إذا مات أعطاه الله نصف ما كان كتب له في اللوح المحفوظ من جنته التي أعدَّها له في دار الخلود؛ بأن يكشف له عن مقعده في الجنة؛ ليتنعَّم بذلك، وتقرّ عينه, فيتنعَّم برؤية مقامه حتى إذا كان يوم القيامة، وحُشر الناس، ونُصب الميزان، ووقع الحساب، أُعطي النصف الآخر وكمل له ما قدِّر له في الأزل.

قلت: ويصح أن يعاين عند موته الجنة التى أعدَّت له كما رُويَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ إلا ولَه مَنْـزِلان: مَنْـزِل فِي الْجَنَّة، وَمَنـزلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا كَان يَوْمُ الْقِيامةِ أَخَذَ الكافرُ مَنْـزلَه الذي فِي النار، وَتَوَلَّى هُو منـزله الذي فِي الْجنَّة».

كما قال عز وجل : ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ [مريم: 80], فكان له بالنسبة النصف بموته، والنصف الآخر حين استقرار كل أحد فيما أعد الله له من الكرامات والإحسان, قال عز وجل : ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].

وعبَّر لهم الشيخ على الجملة من غير تفصيلٍ، ويدل عليه أيضًا ما في بعض أحاديث سؤال الْمَلَكين للعبد: «وأن المؤمن يَفتحان له بابًا إلى النار حتى يرى مقعده، ويقولان له : هذا مقعدك لو أسأت لكنك أحسنت، وأسعدك الله! ها منـزلك، فيَكشفان له عن الجنة، وما أعدَّ الله له فيها، ويَفرشان له من ريحانها وسندسها، ويقولان له : نَمْ نومةَ العروس التى لا يوقظها إلا أحبُّ الناس إليها. وأما الكافر والمنافق فيفتحان له بابًا في الجنة حتى يرى ما فيها، فيقولان له: هذا منـزلك، لو أنك أحسنت لكن لمَّا كنت في ديوان الأشقياء ها دارك، فيكشفان له عن نارٍ لا يُطفأ لهيبها، ولا يزال يأتيه مِنْ فَيحها وهمّها وسُمومها».

وذلك على اختلاف روايات الأحاديث، والله أعلم.

وكم له من مثل هذه المشكلات لا يفك ختامها إلا هو، ومثله من نظرائه.

ويحكى عن سيدي أبي زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم الهزميري دفين باب الفتوح بروضة الصابرين الأنوار بإزاء جامع الصابرين عام ستة أو سبع وسبعمائة في حركةٍ غريبةٍ أضربنا عنها اختصارًا: إن الفقهاء لمَّا تنازعوا بحضرة مراكش في الحوض والصراط أيهما يسبق؟ وطال الخصام على ذلك ثلاثة أيام بين يدي الشيخ الإمام، مكمّل إكمال المعلم أبي عبد الله البقوري.

فلما طال الحال ذهب طالب ممن كان يعتقد الشيخ الهزميري لزيارته، ويسأله عن المسألة حتى يشفيه, قال: لما سألته فتح عينيه، ونظر إلى السماء، ورأيت بعينيه اتساعًا عظيمًا، وهو ينظر ولا يطرف، وهو يقول: «الجنَّةُ الْميزانُ الْحُوضُ الْصراطُ».

كأنه ينظر في ذلك وهو يكرر قوله، ويشير بإصبعه قال: فخرجت من عنده، وأتيت المجلس، فإذا هو على حاله، فأخبرتهم، فبكى أبو عبد الله البقوري وقال: ليس الخبر كالعيان.

قال الإمام ابن الخطيب: كانت للهزميري، ولأخيه أحوالٌ عجيبةٌ.

قال بعض العلماء: لمَّا وقف على حقائق رياضتها قَلّ أن يكون مثل حالهما لِمَا نشاهده من تحقيقهما في المكاشفة والمقام، وهما من عجائب الزمان.

ولولا الاختصار لأوردنا من أخبارهما ما يزيد المريد في سلوكه صدقًا وتحقيقًا، لكن كفى في التعريف بهما صاحب أثمد العينين في مناقب الأخوين.

وما زال الشيخ أبو مدين مستقرًّا بمدينة بِجاية، وأنواره زائدةُ الإشراق، وأخباره طبقت الآفاق، والوفود يردون من الأقاليم من السادات ذوي المكارم، مشاهدين له بأكبر المقام، وإنه شيخ الشيوخ بين الأنام.

فروى جماعة من العلماء: إنه ما زال ذوي الحاجات يقصدونه آحادًا ومع الرفاق، وإخباره رضي الله عنه بما سيكون من أمره متحقِّقٌ واقعٌ، ونور ولايته مشرقٌ ساطعٌ إلى أن وشي به بعضُ المنكرين لكرامات الأولياء من علماء الظاهر لخليفة زمانه ملك المغرب: يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الموحدي المعروف بـ المنصور، وأنه عند قدومه من جزيرة الأندلس ألقى إليه ذلك، وكان قدومه في شعبان عام أربع وتسعين وخمسمائة هجرية من ربيع الأول.

وقال له صاحب السقاية فيما زعموا : يا أمير المؤمنين! هذا رجلٌ يُخاف على الدولة منه، أو قال: على دولتكم، فإن له شبَهًا بـ «الإمام المهدي»، وله أتباعٌ كثيرةٌ، وأصحابه في كل بلدٍ وإقليمٍ, زعموا أن ذلك وقع في قلب يعقوب المنصوري، وأهمه شأنه كثيرًا، وبعث في القدوم إليه.

ورُوي: إنه كتب إلى قائد بجاية: أنْ اِبعَثْ إِلى الشَّيخِ أبي مدين، وأَنْ احمله حِمْلاً مُكرّمًا.

فلما أتى القائد لأبي مدين، وأعلمه بالخبر, قال له: سمعًا وطاعةً لأمر الله عز وجل، فأخذ في أسباب الحركة.

وقال أبو العباس بن الخطيب: فشقَّ الأمر على الكثير من أصحابه، وخافوا أن يكون وراء ما يغير القلوب لما جلبوا عليه الملوك من اتِّباع الهوى في صلاح دنياهم قال: فَأََتُوا إلى الشيخ، وكَلََّموه، فقال لهم رضي الله عنهم وعنه: شعيب شيخٌ كبيرٌ ضعيفٌ لا قوةَ له على الحركة والمشي، ومنيته قُدِّرَت بغير هذه البلاد، أو قال: بغير هذا المكان، ولا بُدّ من الوصول إلى موضع المنيَّة، فقيَّض الله لي من يحملني إلى مكان الدفن برفقٍ، ويسوقني إلى مرام المقادير أحسن سوقٍ، والسلطان الذي خفتم عليَّ منه لا أراه، أو قال: والقوم الذين خفتم عليَّ منهم لا أراهم ولا يروني، فطابت نفوسهم، وذهب بؤسهم، وارتحل بالشيخ رضي الله عنه  فما زالوا يرفعونه برفقٍ حتى بلغ بإزاءِ تلمسان وادٍ يُسمَّى: وادي يسر، فنظر إلى العبَّاد وهو مشرف على تلمسان, قال: وما اسم ذلك المكان؟ فقيل له: العبَّاد،  قال: ما أملحه للرقاد!

رُوي أنه قال: مليح للرقاد, وقال بعضهم: إنه قال: لا بأس بالنوم في هذا المكان.

وقال آخرون: إنه تُوفي بيسر، وهو المعروف الذى تقدَّم، وإنه قريب من تلمسان، وحُمل إلى العبَّاد، فاتفقت هناك منيته، وشرفت تلك البقعة بتربته.

ورُوي أنه قال: ما لي والسلطان! الليلة نلقى الأحبَّةُ محمّدٌ، وحزبه.

قال أبو علي حسن الصوَّاف الذى تقدَّم: إنه كان ملازمًا له ثلاثين سنة لمَّا احتضر الشيخ أبو مدين، واستحييت أن أقول له: أوصني، فأتيته بربيبه, وقلت له: يا سيدي! هذا فلان، فأوْصِه. فنظر إلي،ّ وقال لي: سبحان الله! هل كان عمري كله معكم إلا وصية؟ وأيُّ وصية أبلغ من مشاهدة الحال؟ قال أبو علي الصَّواف: فسمعته عند النـزع، وهو يقول: الله.. الله حتى رقَّ صوته.

وقال بعضهم: آخر ما سمعنا منه الحق، وقال آخر: ما سمع منه الله الحق، وروى: الله الحي.
وكان في هذا اليوم مشهدٌ عظيمٌ حتى أنه لِعَظِيم أمره، تاب في ذلك اليوم أبو علي عمر الحيَّاك.

وقال لمن سأله: مَا رَأَيْت أَعزَّ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَلا أذلَّ مِنَ الأغنياءِ. فقلت له: إن كان هذا حالهم في الدنيا ففي الآخرة أعز وأعز، فدفعت أثوابي لفقيرٍ، وأخذت مرقعة وذكر أمورًا أضربنا عنها اختصارًا.

ولمَّا سَمِعَتْ أهل تلمسان بموته وممن جاورها من السكان أتوا كأنما ساقهم سائقٌ لحضور جنازته.

قال صاحب النجم وغيره، ومن كرامات سيدي أبي مدين:

إن السلطان لمَّا روعه وأهمل حقّه؛ خوفًا على الدولة، وطمعًا في الحياة والبقاء في الْمُلك، عاقبه الله بنقيضٍ مقصودٍ، فكانت وفاة هذا السلطان بعده بسنة.

قلت: بل أقَلّ من ذلك، وعاش منغَّص العيش بِمرضٍ تطاول به ما يقرب من سبعة أشهر حتى تُوفي به.

وهكذا سُنة الله مع أوليائه، لا يروعهم أحدٌ ويقتحم حرمهم، أو يهتك سترهم إلا هتك الله ستره، وهذا مجرَّبٌ من لدن أويس القرني إلى زماننا هذا، ولا تظن أن ظالمًا متجرئًا على أولياء الله تعالى وتكون عاقبته خيرًا أبدًا.

وقد ذكر الإمام الحافظ أبو العباس بن خلكان: خلاف هذا كله في أشخاص الشيخ أبي مدين بمراكش.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية