أولا: الوجد والحال بين التقييم والتحقيق
عند ذكر الأحوال والمواجيد المترتبة عن ذكر الله تعالى وبعده التوحيدي كمعيار إيماني وأداة استدلالية، قد يطرح جدل مفتعل من طرف بعض الفئات الإسلامية و الفاقدة بوجه أو بآخر لهذا النموذج أو العنصر من التفاعل مع النص سماعا أو مع العبادات ممارسة وخاصة ذكر الله تعالى.
ويتلخص هذا الجدل في رفض البعض من المتقدمين من المتسلفة وكذا المتفلسفة ،وهم قلة، والبعض من المتأخرين المعاصرين وهم كثرة لصور من الأحوال الطارئة على بعض الذاكرين الله بالأسلوب الشرعي والمؤسس على آية الأسوة:" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا".
وهذا الرفض قد ينصب إما على الصعق أو التأوه أو اضطراب الأعضاء أو الصياح والتلفظ بألفاظ غير مفهومة إلى غير ذلك من الأحوال التي يكثر وجودها بصفة خاصة عند الصوفية المركزيين – أي الذين تجمعهم طريقة ما، إما تحقيقية أو وراثية- وأقصد بالتحقيقية أي المنتمية إلى شيخ محقق حي ومؤهل للتلقين الروحي وصياغة الأوراد، كما أن الوراثية هي عبارة عن طريقة موروثة عن شيخ كان محققا في زمانه. ولم يبق لدى أتباعه سوى المنهج الظاهري، لكنهم يفتقدون الأستاذ المربي الروحي والمؤهل لتلقين الأحوال والوجد الباطني الحقيقي، بحيث يغلب على هؤلاء ظاهرة التواجد دون الوجد والحال.
وهذا الرفض من المتسلفة وغيرهم قد يتأسس لديهم إما على أسلوب الإفراط أو التفريط. ففيما يخص أسلوب الإفراط فإن البعض ممن يعتمدونه ربما قد لا يستسيغون الأحوال والمواجيد بصورة كلية، وحتى إذا سلموا ببعضها فإنهم يحصرونها في حال واحد لا يكاد يتعداه وهو البكاء، ولكن في حدود تصورهم الذاتي له، لكنهم إذا تطرقوا إلى موضوع الصياح والاضطراب البدني والصعق والعمارة… إلخ، فإنهم إما أن ينسبوها إلى افتعالات ومحاولات ذات خلفية أنانية للتظاهر والرياء ثم التبديع في غير محله ومقتضاه ،وإما أن يسقطوا على أصحابها صفات مرضية هستيرية ذات خلفية عصبية أو نفسية وما إلى ذلك. ولكننا نرى الذاكرين الصوفية في هذه الحالة « ينطقون أو يتلفظون بنظريات ميتافيزيقية وفيزيقية وأخلاقية – حسب تعبير علي سامي النشار- بل « إن كثيرا من أرق الشعر الصوفي قد انطلق من الصوفية وهم في حالة الشطح أو الفناء أو خلع العذار بينما يفترض في أصحاب حالة الصرع عدم القدرة على الإنتاج الفني أو الخلقي أو الإبداع الروحي أو الجمالي»[1].
وهذا الموقف موضوعي بالنظر إلى الآثار الروحية والفكرية والسلوكية التي يؤسسها الذكر. كما أن الاعتراض على الأحوال بمجرد هذه الادعاءات والأقوال الظنية لحد التوهم قد يجعل أصحابه عرضة للاشتباه في إيمانهم والتزامهم بالنصوص الإسلامية. وذلك إما أن المعترضين يطعنون في نجاعة الوسيلة المؤدية إلى تلك الأحوال كأداة إيجابية محضة كما دل عليها النص وإما أنهم ينظرون إلى تلك الوسيلة كما سبق وعبرنا نظرة مادية سطحية لا أثر لها مضبوطا سوى ما تعطيه الرياضات البدنية حسب درجات وظائفها المحدودة بالاعتدال أو الإفراط أو التفريط. وهذا التصور قد يتنافى مع موضوع الذكر وفعاليته. إذ لا مجال للقول بالإفراط في الذكر لأنه أصلا مطلوب بصفة التكثير ولا حد له، مادامت الإرادة صحيحة ومخلصة، بل الإفراط أو التفريط لا يكون إلا عند تغييب الذكر عن اللسان والوجدان وهو ما دلت عليه الآية في قول الله تعالى : «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا»[2].
وهذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة عن موضوع الذكر كما يروى عن ابن عباس في قول الله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا». «إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه. ولم يعذر أحد في تركه إلا مغلوبا على تركه فقال : «اذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ» بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال»[3].
ثانيا: الوجد والحال كحالة صحية وصحوة روحية
وعلى هذا فالحال الناتج عن الإكثار من ذكر الله تعالى لا يمكن اعتباره حالا بدعيا أو مرضيا كيفما كانت أعراضه اللهم إلا ما كان من الذاكر الذي لا يلتزم الشروط الواردة في آية الأسوة، وهذه الشروط هي إخلاص التوجه إلى الله تعالى وسلامة النية والإرادة قصد الائتساء روحيا وظاهريا برسول الله صلى الله عليه وسلم كنموذج أعلى لإخلاص العبودية لله تعالى. ولتحقيق هذا الائتساء بعناصره الظاهرية والباطنية ينبغي أن يكون تسلسليا وراثيا كما أشرنا إلى ذلك، أي مأخوذا بالسند الروحي المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. مصداقا لقوله : « طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رأى من رآني وآمن بي. طوبى لهم وحسن مآب». وكذلك الحديث عن أبي سعيد الخدري حول تسلسل الصحبة عن النبي صلى الله عليه وسلم:”يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح. ثم يأتي زمان فيقال فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح. ثم يأتي زمان فيقال فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال نعم، فيفتح» رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير.
وعند هذا فينبغي التمييز بين الذكر كوسيلة للسلوك إلى الله تعالى بقطع المراحل والعقبات لغاية واحدة وهي معرفة الله تعالى معرفة قرب وحضور واستمداد، وبين الذكر كوسيلة جزائية غايتها جمع الحسنات ومحو السيئات والحفظ من الأذى وتحقيق الأغراض ذات التعلق بالمخلوقات كيفما كان نوعها وإن كان المرجو لتحقيقها هو الله تعالى.
فالذكر المفيد للحال هو المراد منه الغاية الأولى لأنه تعامل مع المذكور كمطلوب لذاته ابتداء وانتهاء «وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ».
ولهذا المعنى كان الذكر شرطا لإخلاص العبودية وكان أيضا معيارا للقوة الإيمانية لأنه سلوكي وتعبدي جزائي في آن واحد، وسلوكيته تتجلى في الأحوال الباطنية الناتجة عنه وفعاليته في تحصيل القرب من الله تعالى لحد الوجد والصعق والخوف والرجاء والمحبة وما إلى ذلك من الأحوال والمقامات المؤدي إليها ذكر الله تعالى. ولهذه الأحوال كما قلنا كان الذكر وسيلة استدلالية وميزانا روحيا يزن به الذاكر مستوى قربه أو بعده عن الله تعالى بحسب الحال الوارد عليه. ما بين حالة القبض والبسط والرضا والاطمئنان وما إلى ذلك مما اختص بالاصطلاح عليه الصوفية بالدرجة الأولى حتى أن بعضهم عبر من خلال هذا الميزان بقوله « حسنات الأبرار سيئات المقربين». وهذا ما لا يدرك معناه إلا أهل الأذواق والمواجيد والأحوال الذين ذاقوا حلاوة العطاء ومرارة السلب، فأدركوا بقلوبهم أن معطيهم وسالبهم واحد فكان تذرعهم إليه روحيا ب «اللهم احفظنا من السلب بعد العطاء».
الدكتور محمد بنيعيش
[1] علي سامي النشار : نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام دار المعارف مصر ط 7 ج 3 ص 22.
[2] سورة الكهف آية 28
[3] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج 3 ص 495
[3] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج 3 ص 495