ثمّ قال رضي الله عنه :
مُحَالُ الْكَذِبُ وَالْمَنْهِيُّ * كَعَدَمِ التَّبْلِيغِ يَا ذَكِيُّ
أوضح هنا ما يستحيل في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والمراد منهم أن وصفهم بها لا يجوز وهو أضداد الصفات الأولى التي منها الكذب. فهذا الوصف لا يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا عمدًا ولا سهوًا بخلاف الولي الذي ربما يصدر منه غفلة لا عمدًا، لأن المؤمن لا يكذب وخصوصًا العارفين بالله. وكذلك يستحيل في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الخيانة التي هي ضد الأمانة، بحيث يبلغ النبي ما لم يؤمر بتبليغه كأن يفشي سر الألوهية، فهذا محال في حقه بخلاف الولي فإنه ربما يغلب عليه التجلي الإلهي ويبدي الكلام لغير أهله فيكون ذلك نقصًا في حقِّه بالنسبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وكذلك يستحيل في حقهم الكتمان الذي هو ضد التبليغ فإن الرسول يبلغ رسالة ربه ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه أو إلقائه في النار، كما وقع لسيدنا إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. أما استحالة المعصية في حقهم فليست هي داخلة في الأمانة وإنما هي داخلة في الصفة الجامعة التي هي العصمة. فكانت لهم هذه الصفة ذاتية بخلاف الأولياء فإنها لهم كسبية وهي المسمّاة بالحفظ إلا أن الحفظ كاد أن يكون عصمة في نهاية أمر العارفين بخلاف البداية فربما يتخلف. وبهذا زال اللبس وسلم الحد لمحدوده. ولما فرغ من الكلام على الواجبات والمستحيلات في حق الرسل عليهم أزكى الصلوات وأنمى التحيات شَرَع في الكلام على الجائزات فقال :
يَجُوزُ فِي حَقِّهِمُ كُلُّ عَرَضْ * لَيْسَ مُؤَدِّيًا لِنَقْصٍ كَالْمَرَضْ
أخبرنا أن الأنبياء من البشر تجوز في حقِّهم الأعراض البشرية كما تجوز في حق غيرهم من البريّة. فلا تصفهم بأوصاف الألوهيّة فإنهم يأكلون كما تأكلون ويشربون كما تشربون ويموتون كما تموتون. وحاصل الأمر أن كل ما يجري على البشر يجري عليهم، اللهم إلا ما يؤدي للنقص في مراتبهم العليا، فهو محال في حقهم وأما بقية البلايا فهي جائزة في حقهم ويكفينا في ذلك ما قال عليه السلام : (نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً ثُمَّ الأَوْلِيَاء ثُمَّ الأَمْثَل فَالأَمْثَل) فلهذا تجد الأولياء أشد الناس بلاء، كل ذلك لقربهم من الحق ومحبتهم له، لما يروى في الخبر أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني أحب الله، فقال له : اتخد للبلاء جلبابا. وعليه أن الأنبياء والأولياء سكناهم تحت مجاري الأقدار. ولما أنهى الكلام على الصفات الواجبات والمستحيلات والجائزات في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام شرع في بيان براهينها فقال :
لَوْ لَمْ يَكُونُوا صَادِقِينَ لَلَزِمْ* أَنْ يَكْذِبَ الإِلَهُ فِي تَصْدِيقِهِمْ
ذكر هنا برهان الصدق، أي إذ لو لم يكونوا صادقين فيما أخبروا به عن الله للزم الإله أن يكذبهم، وهو قادر على ذلك فبدل أن يصدقهم بالمعجزة يبتليهم بالإهانة التي هي ضدها لو كانوا كاذبين كما وقع لمسيلمة الكذاب وغيره ممن ادعى النبوة. فمن جملة الإهانة التي وقعت له أنه تفل في عين أعور لتشفى فعميت له الأخرى، وكذلك تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت بالكلة في حينها. فمثل هذا إهانة يكذب الله بها أعداءه ضد المعدزة التي يصدق بها أنبياءه، لأن المعدزة تنزل منزلة قوله : صدق عبدي في كل ما يخبركم به عني.