ثم اعلم أيها الطالب للإشراف على منازل الأشراف والاطلاع على حقيقة نفسه والتطهر من وابل مدد فيض قدسه أن القوم بنوا الطريق على أربعة أركان : الجوع وزالسهر والصمت والعزلة، فلا وصول إلى الله بدونها :
إن الطريق لها أركان واجبة * فلا وصول بغير الركن للرجل
فهاكها أربعًا قالت مشايخنا * جوع وسهر وصمت وعزلة فعل
وزاد بعضهم على ذلك أربعًا أيضًا : دوام الذكر، ودوام الفكر، ودوام الطهر، وربط قلب المريد بالأستاذ، وهذا من آكد الأركان والشروط عند القوم
ونظمها شيخ شيخنا السيد البكري فقال :
شروط طريقنا المرضي عدت * ثمانية فلازم من حواها
ولازم وردها وانهض بعزم * لترقى في مراقي من عناها
وتصبح واحدًا في الناس فردًا * جليلاً من سنا باهي سناها
فقل : صمت وجوع ثم السفر * بليل الوصل كي يجني جناها
دوام طهارة ودوام ذكر * ونقي خواطر فارقي ذراها
وربط مريد ذو قلب وجد * بقلب الشيخ فاحذر ما تناها
فأول الأركان المذكورة الجوع، وهو أعظمها، لأن غيره ينشأ عنه، على حد قوله صلى الله عليه وسلم : (الحَجُّ عَرَفَة) والجوع أساس كل خير قال صلى الله عليه وسلم : (إنَّ الشيطانَ يجري مِنَ ابنِ آدمَ مجرى الدمِ فضيِّقوا مجاريَهُ بالجوعِ والعَطَشِ، فإن الأجرَ فِي ذلِكَ كَأَجرِ المُجاهِد فِي سَبِيلِ اللهِ) وقال صلى الله عليه وسلم : (أفضلُكُم عندَ اللهِ منزلةً أطولكم جوعًا وتفكُّرًا، وأبغَضُكم عندَ الله تعالى كل أكول نوّامٍ شروبٍ) وقال صلى الله عليه وسلم : (سيِّدُ الأعمالِ الجوعُ، وذلُّ النَّفسِ لباسُ الصوفِ) وقال صلى الله عليه وسلم : (لا تُميتُوا القُلوبَ بِكَثرَةِ الطّعامِ والشَّرابِ، فإنَّ القَلْبَ كَالزَّرْعِ، يَمُوتُ إِذَا كَثُرَ عَليْهِ المَاء) وعن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكيلات يقمن بها صلبه، فإن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب، وثلث لنفسه"، وقال صلى الله عليه وسلم : (جوعُوا تَصِحُّوا) وقال القشيري : "لا شيء أَضرٌّ على الآخرة من الأكل، ولا أنفع من الجوع، ولا شيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال، وأن الله يبغض من الحلال شيئين ، الطلاق والشبع" وعن بعضهم : "مَن جاعت نفسه انقطع عنه الوسواس" وعن بشير الحارث قال : "الجوع والعطش يورثان صفاء القلب، ويميتان الهوى، ويثمران العلم الدقيق" وقال سليمان الداراني : مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع،" وقال بعضهم : "لئن تركت لقمة من عشائي وأنا محتاج إليها خير من قيام ليلة إلى الصباح" وقال بعضهم : كل الخير مجموع في خزائن الجوع" وقال لقمان لابنه : "يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرس لسان الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة".
وقال إبراهيم بن أدهم : "خدمت ثلاثمائة ولي، وكل منهم يوصيني بأربعة أشياء : أحدها : مَن أكثر من الأكل لم يجد لطاعة الله لذّة، ثانيها : مَن أكثر من النوم لم يجد في عمره بركة، ثالثها : مَن أكثر من مخالطة الناس لم تقم له عند الله حجّة، رابعها : مَن أكثر في الوقوع في أعراض الناس لم يخرج من الدنيا على التوحيد
وقال يحيى بن معاذ : "في نفس ابن آدم غصن من الشر، كلها في يد الشيطان، فإذا جوَّع بطنه وأخد حذره وريّض نفسه يَبِس كل غصنٍ واحترق بنار الجوع، وفر الشيطان منه"، وقال رجل لابن بشير علِّمني العبادة، فقال : ألست تأكل ؟ قال : نعم، قال : كيف تأكل ؟ قال : آكلُ حتى أشبع وأكتفي، قال : هذا أكل البهائم معدومات العقول، اذهب عني وتعلّم الأكل ثم تعلّم العبادة
وللشيخ أن يعامل الكاملين معاملة السالكين بالجوع وإن لم يكن يلازم للمحققين فهو مورثهم أسراراً عليّة، وأما السالكون فهو عليهم كالأمور الفرضية
قال بعضهم : لو وجد المريد الجوع في السوق لوجب عليه أن لا يشتري غيره". سئل بعضهم : هل نجد الطب في كتاب الله تعالى ؟ قال : نعم، قد جمع الله الطب كله في آية واحدة بقوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأعراف:31] يعني أن الإسراف في الأكل يتولّد منه الأمراض والأوجاع.
ويقال : في كثرة الأكل ست خصال : الأولى : يذهب خوف الله من القلب، الثانية : يذهب رحمة المخلوقين منه، الثالثة : يثقل الطاعة على البدن، الرابعة : إذا سمع كلام الحكمة لا يرق قلبه ولا يؤثر فيه خوف الله، الخامسة : إذا تكلم بالوعظ لا يقع في قلوب الناس، السادسة : يهيج الأمراض.