آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التربية النبويّة -19

العلم بالدواء النافع للداء


إذا كانت التزكية للنفس والقلب من الحظوظ الفانية والأخلاق الذميمة، فمن الضروري أن يكون المزكي على علم بنوع المرض، والدواء الذي يصلح للعلاج، وهذا بيِّن من سيرته صلى الله عليه وسلم مع صحابته.

يقول صلى الله عليه وسلم في تفسير سلوك الغضب : "ألَا وإنَّ الغضَبَ جَمْرةٌ تُوقَدُ في جوفِ ابنِ آدَمَ؛ ألَمْ تَرَ إلى حُمرةِ عينَيْه وانتفاخِ أوداجِه؟ فَإِذَا وَجَدَ أحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالأرْضَ الأرْضَ.".1

وعن عروة بن محمد بن السعدي أن رجلًا كلّمه فأغضبه، فقام وتوضأ ثم رجع وقد توضّأ فقال : حدثني أبي عن جدي عطية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تَطْفَأُ النَّرَ بِالمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ"2.

وقال صلى الله عليه وسلم : "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ وإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ".3

وَاسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَغَضِبَ أحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حتَّى انْتَفَخَ وجْهُهُ وتَغَيَّرَ: فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لو قالَهَا لَذَهَبَ عنْه الذي يَجِدُ" فَانْطَلَقَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ بقَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقالَ: "تَعَوَّذْ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ" فَقالَ: أتُرَى بي بَأْسٌ، أمَجْنُونٌ أنَا، اذْهَبْ.4

كلنا نعلم أنَّ الغضب سلوك يصيب الإنسان عندما يفقد السيطرة على نفسه، ويصل هذا السلوك بالإنسان إلى نتائج غير محمودة، يتجاوز بها حدود الأدب والأخلاق، فيسب ويشتم، وقد يرتكب جريمة يخسر بها الدنيا والآخرة، لذلك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدوية متنوعة لعلَّة وحالة واحدة وذلك لخطورتها، وتفشيها بين الناس.

ومن جرَّب ذلك عَلِمَ معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدواء السهل البسيط، ولكن النفس لا تتحمله لأنه يقهرها ويردها عن غيِّها، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".5

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : "أَوْصِنِي"، فقال : "لَا تَغْضَبْ" فردَّدَ مرَارًا"لا تغضب".

ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدواء النافع لإزالة البغضاء والغل بين قلوب صحابته، لتحلَّ محلها المحبّة والوئام، فقال : "لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ علَى شَيْءٍ إِذَا فعلتُموهُ تَحَابَبْتُم أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكم".6

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الغِلُّ وَتَهَادُوا تَحَابُّوا وَتَذْهَبُ الشَّحناءُ".7

وعَلِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النفوس لا تقنع بما قسّم الله لها من رزق فتشرئبُّ إلى من فضل عليها في الرزق من مال وسلطان وجاه، فأوصى بشيء إن اتبعه المؤمن نجا وسلم من آفة كفر النعمة، وإساءة الأدب مع الله تعالى، وترك شكر النعم، فقال : "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ".8

وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له : "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ".9

وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من البخل والشح، ونتائجه على الفرد والمجتمع، وأن النفس بطبعها تبخل وتشح، فوضع صلى الله عليه وسلم منهاجًا عمليا للتغلب عليه ومحاربته، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ".10

ويدخل في هذه الخاصية تعليمه صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته الأدعية التي تداوي أحوالهم، وتشفي عللهم، وتقضي حوائجهم، فقد دخلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ المسجدَ فإذا هوَ برجلٍ منَ الأنصارِ يقالُ لَهُ أبو أمامةَ فقالَ: يا أبا أمامةَ ما لي أراكَ جالسًا في المسجدِ في غيرِ وقتِ الصَّلاةِ ؟. قالَ همومٌ لزمتني وديونٌ يا رسولَ اللَّه. قالَ: أفلاَ أعلِّمُكَ كلامًا إذا أنتَ قلتَهُ أذْهبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ همَّكَ وقضى عنْكَ دينَكَ ؟. قالَ: قلتُ بلى يا رسولَ اللَّه. قالَ: قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ : "اللَّهمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ منَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وأعوذُ بِكَ منَ العَجْزِ والْكَسَلِ، وأعُوذُ بِكَ منَ الجُبنِ والبُخْلِ، وأعوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّينِ وقَهْرِ الرِّجالِ". قالَ : ففعلتُ ذلِكَ، فأذْهبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ همِّي وقَضَى عَنِّي دِيني.11

ومثل هذه الأحاديث كثيرة امتلأت بها كتب الدعوات في مؤلفات الحديث النبوي الشريف، وهو من شفقته صلى الله عليه وسلم على صحابته وحرصه عليهم، وإخراجهم بما ينفعهم من حال قبض النفس الذي يسبب لهم الحزن إلى حال بسطها، وذلك بالتوجه إلى الله تعالى بالدعاء والطلب، وهو طريق عظيم، ومسلك عتيد في التزكية.

**   **   **
1 - مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري.
2 - سنن أبي داود، كتاب الأدب.
3 - المرجع نفسه.
4 - صحيح البخاري.
5 - المرجع نفسه عن أبي هريرة.
6 - المرجع نفسه.
7 - صحيح مسلم عن أبي هريرة كتاب : الإيمان.
9 - موطأ الإما م مالك عن أبي مسلم الخرساني.
10 - مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة.
11 - سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية