قال أبو محمد عبد الله بن سعيد اليافعي الحضرمي في روض الرياحين، وحكايات الصالحين، روي أن أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن المعروف بالمنصور الموحدي رأى أحوالاً وجدها في نفسه من أحوال المريدين، وكان سببها؛ قَتْل أخيه غيرةً على الْمُلكِ، فندم على قتل أخيه ندامةً أورثته توبةً أثَرت في باطنه أحوالاً سنية، وتغيّر عليه من نعيمه ما لا يعهد لثمرة التوبة، فما كان أبركه عليه ذنبًا.
وفي مثل هذا قال القائل:
وَرُبَّ قطيعةٍ جَلَبَتْ وِصَالاً
وَكَم ذَا فِي الرَّزايا مِنْ خَبَايَا
فشكى ما يجده لصديقة كانت تدخل قصره, وقالت له: هذه أحوال المريدين.
قال لها: وكيف أعمل بنفسي؟ ومَنْ يعرفني ويداويني؟
قالت له: الشيخ أبي مدين هو سيد هذه الطائفة في هذا الزمان، فبعث السلطان إلى الشيخ أبي مدين وطلبه طلبًا حثيثًا، والتجأ إليه، فاقتضى إجابة الشيخ أبي مدين بأن قال له: يطيع الله سبحانه بما أمره من الطاعة، وأما أنا لا أصل إليه بل أموت بتلمسان، وكان هذا الشيخ في بجاية, فلما وصل إلى تلمسان قال لرسل السلطان: سلِّموا على صاحبكم، وقولوا له: شفاؤك على يد أبي العباس السبتي، ونفعك على يديه, فما أتى الشيخ رضي الله عنه وذهبت الرسل، فلحقوا السلطان، وأخبروه بما أوصى به، فطلبوا الشيخ أبو العباس السبتي طلبًا حثيثًا حتى وُجِدَ وظُفِرَ به، فأعلموه من الطلب, فوجد في نفسه إذنًا.
أو قال: فوجد من الحق سبحانه إذنًا بالاجتماع به، فمشي إليه، واجتمع به، ففرح يعقوب بذلك, ثم أمر بذبح دجاجةً، وخنْقِ أخرى، وأن تُطْبَخ كلُّ واحدةٍ منهما على حدتها، وقدَّموهما بين يدي الشيخ، وسأله أن يتناول أكلهما، فنظر الشيخ إليهما، وأمر الخادم برفع المخنوقة, وقال: هذه جِيفةٌ، وأكل من الأخرى، فأسلم يعقوب نفسه له، ونزل نفسه له منـزلة خادم، وفتح له على يديه، وثبَّت قدمه في الولاية ببـركةِ الشيخ أبي العباس, وإشارةِ الشيخ أبي مدين.
ويُحكى مما جرَّب ليعقوب بعد أن خرجوا للمصلى: استسق للمسلمين, فإنه بذلك أمرت، فصلَّى يعقوب، ثم دعا، فنـزل المطر على القوم والله أعلم.
قلت: وهذا أبو العباس هو: أحمد بن جعفر الخزرجي الأنصاري السبتي الأصل، ثم ارتحل لمراكش عام أربعين هـ, وهو ابن ستة عشر سنة، وتُوفي عام واحد من القرن السابع، وله عجائبٌ وغرائبٌ في إغاثة الملهوف، ولكن أعماله كلها مبنيَّةٌ على الفتوح والصدقة, ولابُد أن تُقدَّم بين يدي جميع ما تطلب, وكان أهل مراكش اعتقادهم فيه خبيثٌ، وكان يحلم عليهم ويحتملهم.
وما ظهرت ببـركته, واتفقوا على محبته حتى كمل القرن الذى مات فيه وحينئذ اتفقت القلوب على محبته.
قال الإمام ابن الخطيب: إني سمعت يهوديًّا يستغيث به، ويتوسَّل به، فقلت له في ذلك، فقال لي: والذى أنزل التوراة على موسى ما أقول لك إلا حقًّا: كنت في قافلةٍ، ودابتي موقورةً بمحلٍّ، وإذا باللصوص أتوا فبكيت، وقلت: يا سيدي أبا العباس! وإذا بعارضٍ عرض للقافلة فوقفت، وإذا بدابتي زال عرجُها، ولحقت بالقافلة, وخلصت من اللصوص.
وهذا الإمام ممن اتفقت الناسُ على الإجابة عنده، وأنه مجرَّبٌ مع تقديم الصدقة.
وتقدم قول أبي العباس زروق رضي الله عنه لاسيما من ظهرت بركاته بعد مماته أكثر من حياته, كالشيج أبي العباس السبتي.
قلت: وهذا الشيخ بينه وبين الشيخين أبي مدين, والشيخ الأوحد: سيدي أبي يعزى مناسبةً؛ لأن سيدي أبا العباس أخذ عن أبي عبد الله الفخَّار عن أبي الفضل السيد الإمام سيدي عياض بن موسى السبتي الفاسي القيرواني اليمني.
هذا نسبه الصحيح، ولأجل الاختصار أضربنا عن تحقيق ذلك، و التدقيق فيه, وهو أخذ عن الإمام أبي بكر بن العربي، وسيدي الشيخ سيدي أبي يعزى أخذ كما تقدَّم عن سيدي أبي بكر بن العربي, كما عرَّف به الإمام بن بادس في شرحه للنفحات القدسية.
وسيدي أبي مدين أخذ عن سيدي أبي يعزى، وأخذ أيضًا عن سيدي علي بن حرازم عن سيدي أبي بكر بن العربي، وقد قدمنا سلسلتهم في ذلك.
وسنـزيد في ذلك بيانًا إن شاء الله في اتصال سلسلتنا بهذه الشيوخ، نفعنَا الله بهم في الدنيا والآخرة آمين.
قلت: هذه الشيوخ الأربعة هم أركان هذه الطريقة في إغاثة الملهوف: سيدي أبي يعزى، وسيدي أبي مدين، وسيدي أبي العباس السبتي، وسيدي عبد القادر الجيلاني.
وهم أحمى للحمى من كل كدر بقدر الصدق في محبتهم والاضطرار.
وأما الشيوخ المعول عليهم في السلوك والتدقيق والتحقيق: فحجة الإسلام أبو حامد الغزالي، والأستاذ أبو القاسم القشيري, وهو من أشياخ أبي المعالي الإمام المشهور شيخ أبو حامد الغزالي، والشهاب السهروردي صاحب العوارف، وشيخ الجماعة أبو طالب المكي، وشيخ الإسلام الهروي.
وعيون هذا الذى ألَّفوه، وكل ما جمعوه وصنَّفوه, فهو في كتاب تاج العارفين للإمام ابن عطاء الله.
وعيون ذلك كله في كتاب الحكم وخاتمة التصوف, وإمام أهل الصدق والتعريف: سيدي أبو عبد الله بن عباد.
فالكل موجودٌ في تنبيهه ورسائله الكبرى والصغرى, المتوفى عام اثنين وتسعين وسبعمائة هجرية.
ويحكى عنه: لمَّا كان في سكرات الموت كان يكرر: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: 255] إلى آخرها، وينشد:
مَا عَوَّدُونِي أَحِبَّتي مُقَاطَعَة
بَلْ عَوَّدُونِي إِذَا قَطَعْتهم وَصَلُوا
ومازال يكرِّر الآية والبيت حتى خرجت روحه رحمه الله تعالى.