ومن هذه الآفات نورد ما يلي :
آفة الموت : لا نقصد بالموت هنا مفهومه العام باعتباره سنة طبيعية تخضع لها سائر الكائنات الحيّة، وإنما نعني به انعدام الشعور الإيماني لدى الإنسان إن ترك الذكر. وإن الإعراض عنه هو السبب الرئيسي في آفة الموت هاته، هذه الآفة التي قد تصيب المرء الكافر بموت كلِّي يفقد فيه الإنسان الإيمان مُطلقًا، كما تجر للمسلم موتًا جزئيا بسبب غفلة قلبه ولسانه عن الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والذي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)[صحيح البخاري]. فشبّه عليه السلام ذاكر الله عز وجلّ بالحي، لأن نور المذكور الحي سبحانه وتعالى أشرق فيه. وصَوَّر حال تارك الذكر بالميِّت لأنّ قلبه لا يتجاوب مع الذكر بسبب الغفلة عن الله. قال تعالى : ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾[الأنعام:122].
آفة الغفلة :
الغفلة هي انطماس القلب عن إدراك معنى الذكر، أو هي انغلاق باب القلب عن الاستجابة لواردات الرب، أو هي عمى البصيرة عن رؤية لطائف المعنى، وهي نوعان :
أ - غفلة مطلقة : وهي فقدان الموجه الباطني نحو الحق، وسُميت هذه الغفلة بالران، قال تعالى : {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.[المطففين:14]
ب - غفلة نسبية : وهي فقدان الحضور مع الله بحيث يتشتت فكر المرء الروحي ويسهو القلب عن المعاني الروحيّة السامية. وتعدُّ الغفلة بقسميها من الأمور المنهي عليها في الإسلام، قال تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ[الأعراف:205]. والنهي هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) وهو بالأحرى ملزم لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حاشا لقلب ينزل عليه الوحي، ولا ينام وإن نامت عينا صاحبه أن يغفل عن الله طرفة عين. وقد أتى النهي عنها أيضاً في صورة نقض العهد الذي أعطته الأرواح في عالم الميثاق، قال تعالى :{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}.[الأعراف:172]
فكان من ضمن بنود هذا العهد والميثاق عدم الغفلة عن ربوبية الحق وعن ألوهيته، وبالتالي فالغفلة عن الله هي نقض لعهد قديم التزمت به الأرواح مع الحق لكي يبقى لسان حالها قائلًا "بلى" في حياتها الدنيوية حتى تلقاه..
إلاّ أنّ قول "بلى" واستمرارية هذا القول في وجود الإنسان أو نقيض ذلك من غفلة عن الله وعن عهده بالضرورة، يدفع إلى الحديث عن مكان الغفلة في الوجود الإنساني، ويظهر من خلال النصوص أن محلها هو القلب، قال تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.[الكهف:28]
والشاهد في قوله تعالى : (أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا) فيكون القلب هو مرتع ظلمات الغفلة المنبعثة من صور الأكوا وأصنام الهوى، قال سيدي ابن عطاء الله السكندري : (كَيْفَ يُشْرِقُ قَلْبٌ صُوَرُ الأَكْوَانِ مُنْطَبِعَةٌ فِى مِرْآَتِهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَرْحَلُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُكَبَّلٌ بِشَهَوَاتِهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَطْمَعُ أَنْ يَدْخُلَ حَضْرَةَ اللهِ وَهُوَ لَمْ يَتَطَهَّرْ مِنْ جَنَابَةِ غَفَلاَتِهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَفْهَمَ دَقَائِقَ الأَسْرَارِ وَهُوَ لَمْ يَتُبْ مِنْ هَفَوَاتِهِ ؟)
ولذا فإن أضرار الغفلة هاته كثيرة نذكر مها :
1 - اتباع الهوى : لأن القلب الذي يملك مِقود الجوارح غافل بعيد عن الله، فتتربَّع النفس على عرش الأمر والتوجيه حتى يضل الإنسان الطريق، قال تعالى : {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
2 - عبثية الفعل : إذ اتباع الهوى يقتضي تغير المقصد، وثم تلعب بالإنسان بنات نفسه من وساوس وأوهام فيكون أمره فرطا.
3 - مرض القلب : لأن القلب يصاب بأمراض عديدة كالكبر والحسد ولكن منشأ كل هاته الأمراض هو الغفلة، قال تعالى : {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}.[البقرة:10]
4 - عمى القلب : لأن قوة حجاب الغفلة وظلمتها تمنع الور من النفوذ إلى القلب حتى يُصاب بالعمى :{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.[الحج:46]
5 - عدم استجابة الدعاء : فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الدُّعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ). أخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث مستقيم الإسنادِ ولم يُخرِجاه.
وهكذا تكون الغفلة عن الله ضارة منسية لنفسه وروحه ولربه جل وعلا.