وتجدر الإشارة إلى أن موضوع الجمال قد حظي باهتمام الفلاسفة والمفكرين والشعراء وأرباب الفنون منذ القدم؛ وذلك لارتباطه بأعمق الأحاسيس الإنسانية، ولتأثيره الكبير على رؤى وأفكار الإنسان، وتبعا لذلك فإن تحدي ماهية الجمال وتشريحه إن صح التعبير يحتاج إلى دراسة عميقة ومتأنية تتجاوز غرض هذه الأطروحة.
و إذا أردنا الاستئناس بآراء القدامى لتحديد ماهية الجمال نبدأ بالغرب لأنه كان سباقا لإثارة مثل هذه المواضيع و الإشكالات ؛ فيطالعنا أفلاطون بوجهة نظر محلقة في عالم المثل إذ «يفترض وجود مثال للجمال أو يرى أن العمل الفني نقل ومحاكاة، وأن الجمال في المثال جمال مطلق، أما في الأشياء فهو نسبي - و تكون الأشياء جميلة عندما تكون في موضعها ، و قبيحة عندما تكون في غير موضعها، ولكن الأشياء لا تنقسم إلى قسمين جميلة وقبيحة ، بمعنى أن ما ليس جميل لا يكون قبيحا حتما، إنما هناك مرحلة يخلو فيها الشيء عن كل الوضعين ، و مثال ذلك غير العالم لا يكون حتما جاهل، وإنما هو وسيط بين طرفين متناقضي»، فالنظرة الأفلاطونية ترى في عالم المثل الجمال المطلق الذي ينبغي لكل ناشد للجمال أن يحاكيه ، فالجمال والقبح في هذه الرؤية يحدده عالم المثل، فبقدر اقتراب المحسوس و اللامحسوس إلى المثال بقدر ما يكون جميل و العكس بالعكس .
أما أرسطو فيرجع جمال العمل الفني إلى قدرته على جعل المتلقي يشعر بعمق أنه أمام عين الحقيقة وليس مجرد تقليد للمثال ف " السبب في أن الناس يستمتعون برؤية الشبيه هو أنّهم بتأملهم فيه يجدون أنفسهم يتعلمون ويستنبطون الأفكار، وربّما يقولون آه هذا هو؛ ذلك لأنه إذا حدث أنك لم تر الأصل فإن المتعة لن يكون سببها التقليد وإنما هي ترجع إلى الإتقان أو اللون."
فأرسطو يرى في مهارة الفنان و قدرته على الصياغة و التشكيل و إنزال المثال إلى أرض الواقع أساس الإنتاج الجميل لدى الفنان ، فالاختلاف بين أفلاطون و تلميذه أرسطو ، هو أن أرسطو أنزل عالم المثل إلى الأرض فخلق بذلك جدلية بين الإنسان والطبيعة أساسها التأثير و التأثر ، فالمنطق الأرسطي يقول : " كل شيء في الوجود هو محاكاة لمثال لا تقع عليه العين ، و كل عمل فني هو محاكاة لعمل جميل موجود ، أو متصور تقع عليه العين، أو يجلوه له الفكر أو يصوره له خياله وليس جمال الحياة قائما على جمال الموضوع ، فالجمال والقبح من مظاهر الطبيعة والحياة ، يمكن أن يمُدا أهل الفن بموضوعاتهم حتى يكون هناك جمال الجمال، أو جمال القبح، فيبدو الجميل أجمل مما هو، والقبيح أشد إثارة واشمئزاز".
ومهما يكن من شيء فإن الفنان يصور الشيء إما من أجل ترغيب المتلقي فيه وذلك هو الجميل والخير، وإما من أجل التنفير منه وذلك القبح والشر.
ومن قبل أفلاطون وأرسطو نجد أن سقراط أخضع الجمال لمبدأ الغائية، وبات الشيء الجميل عنده ما كان له فائدة للإنسان، والرائع في الفن ماكان نافعا "... وأن موقع حسن الشيء من الروعة ما تناسب غاياته مع غاية النفع التي تصيب الإنسان، على حين أن القبيح و الرديء هما لا جدوى منهما ولا نفع".
وإذا تركنا أرض الإغريق جنوبا باتجاه منبع التراث العربي فنجد في كتاب المرشد إلى فهم أشعار العرب " بأن الجمال إحساس سار، كل ما يسر النفس من طريق الحواس الخمس، ولا سيما العين والأذن هو جميل، والجمال خصال مدركة بالحواس، وبخاصة هاتين الحاستين معا أو منفردتين من شأنها أن تسرّا النفس".
وقد ارتبط الجمال عند الجاحظ بالمنفعة إذ يصف حسن النهار بالقول: «... وكيف حال النار في حسنها ، فإنه ليس في الأرض جسم لم يصبغ أحسن منه ، ولولا معرفتُهم بقتلها و إحراقِها وإتلافها ، و الألم و الحُرقِة المولدين عنها، لتضاعف ذلك الحُسن ِعندهم ، و إنّهم ليرْونها في الشتاِء بغير العُيوِن التي يرونها بها في الصيف، ليس ذلك إلا بقدر ما حدث من الاستغناِء عنها» فنظرة الجمال في التراث العربي نظرة موضوعية يلعب البصر و السمع ركيزتا استشعاره، لهذا كان التركيز في القرآن الكريم المنزل بلسان عربي مبين على عرض الطبيعة بمختلف مظاهرها عرضا يشبع السمع و البصر ، فقد نفخ الله تعالى في الكلمة القرآنية من روحه كما نفخ من قبل في آدم وعيسى عليهما السلم ، فإذا الكلمة حية تسعى.