مخطوطة : روح القدس فى مناصحة النفس
مؤلف : محي الدين ابن عربي
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه أتوكَّل
مِنَ العَبْدِ الضَّعيفِ النَّاصِحِ الشَّفيقِ، المَأمورِ بالنَّصْحِ لإخْوَانِهِ والمُشَدِّدَ عليهِ فِي ذَلكَ دُونَ أَهلِ زَمانِهِ، محمَّد بْنُ عَليٍّ بن مُحمَّد بْنُ العَرَبي الطَّائي الحَاتِمِي وفَّقَهُ اللهُ تَعالَى، إلَى وَلِيِّهِ في اللهِ تَعالَى وأَخيهِ الرُّكْنُ الوَثيق أَبي مُحَمَّد عَبد العَزيز بْنِ أَبي بَكر القُرَشيّ المَهْدَوي نَزيلُ تُونس أبقاهُ الله مَحفوظًا وَبِعَيْنِ الصَّوْنِ الإلَهِي وَالحِمايَةِ مَلْحُوظًا، سَلامُ اللهِ عَليكُم وَرَحمةُ اللهِ وبَركَاتُهُ .
أَمَّا بَعد : فَإنِّي أَحمدُ إليكَ اللهُ الذِّي لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأصَلِّي علَى سيِّدِنا محمَّدٍ وعَلى آلِهِ وأُسلِّمُ تسليمًا، أمَّا بَعدَ يَا أخِي، فإِنَّ النُّصحَ مَا تعَامَلَ بِهِ رَفيقَان وَتَسامَرَ بهِ صَديقَانِ، وَقَلَّ مَا دَامَت صُحْبَة اليوْمِ إِلَّا عَلى مُدَاهَنَةٍ، وقَد ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَليهِ السَّلَامَ قَالَ : (مَا تَرَكَ الحَقُّ لِعُمَرَ مِنْ صَدِيقٍ) وقَالَ أُوَيْس القَرنيّ لِرَجُلٍ مِنْ مُرادٍ : "يَا أَخَا مُرادِ إنَّ المَوْتَ وَذِكْرُهُ لَمْ يَتْرُك لِمُؤْمِنٍ فَرَحًا، وَإِنَّ عِلمُهُ بِحقُوقِ اللهِ لَمْ يَتْرُك لَهُ فِي مَالِهِ فِضَّةً وَلَا ذَهَبًا ، وَإِنَّ قِيَامَهُ للهِ بِالحَقِّ لَمْ يَتْرُك لَهُ صَدِيقًا" رَوينَا هذَا مِن حَديث مُخَلَّد بنُ جَغفَر عَن مُحَمَّد بْن حَرِيز عَن محمَّد بن حميد عَن زَافِر بن سُلَيمَان عن شَريك عَنْ جَابِر عَن الشَّعْبي عَنْ رَجُلٍ مِن مُرَادٍ.
وَكُلُّ إنسَانٍ يَقبَلُ النُّصحَ فِي غَيرِهِ وَيَتَلذَّذُ بِسَماعِ مَعَايِبِ النَّفسِ خَاصَّةً إِذَا أَرسَلتَهَا فِي مَجلِسِكَ مُطلَقةً مِنْ غَيرِ تَعيينٍ، وَبقَولِكَ بأَنَّ هذَا هُوَ الحقُّ فإِذَا قُلْتَ لَهُ إيَّاكَ عَنَيْتُ بهذَا الكَلام والمُؤمِنُ مِرآةُ أَخيهِ، وَقدْ رَأيْتُ فيكَ مَا أوجَبَ أنْ أقُولَ لكَ فيهِ، شَمَخَتِ النَّفسُ وقَالتْ : سُبحَانَ اللهِ إنَّمَا أَنَا مِرآةُ نَفسِكَ رَأَيتَ فِيَّ، وَمِثْلي أنَا مَنْ يُقالُ لَهُ هذَا ، فَأَدَّى نُصحَنا لَهُ فِي أمرٍ واحدٍ إِلَى ارْتِكابِ مَحْظُورَاتٍ كَثيرَةٍ مِنَ الكَذِبِ والنِّفاقِ، وَقَلَّ يَا وَلِيَّ اللهِ أنْ تَجِدَ اليَومَ للِنَّاصِحِ مِنْ صَدِيقٍ وَلقَد قُلنَا فِي ذلكَ :
لَمَّا لَزِمْتُ النُّصْحَ والتَّحْقِيقَا * لَمْ يَتْرُكَا لِي فِي الوُجُودِ صَدِيقَا
وَلَعُمْرِ اللهِ مَا كَذَبْتُ * وَمَا قُلْتُ إِلَّا مَا وَجَدْتُ
وَيَعْلَمُ وَلِييِّ أَبْقَاهُ اللهُ إنِّي مَا عَاشَرتُهُ أَيَّامَ إقَامَتِي عِندَهُ إِلَّا بالمُنَاصَحَةِ حَتَّى ذَكرَ لِي يَومًا عَلى العِشَاءِ وَقالَ لِي مُوَاجَهةً، إنَّكَ كَثيرُ الانْتِقَادِ، وَاحْتجَّ عَلَيَّ بِمَسْأَلَةِ إبْرَاهيم ابْنُ أَدْهَم، ثُمَّ اسْتَشْهدَ عَلَيَّ بِقَولِ القَائِلِ :
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٍ * وَلَكِنَّ عَيْنُ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا
فَأعرَبتُ لَهُ وفَّقهُ اللهُ أنَّ ذلِكَ مَقَامُ مَن أَحبَّكَ لِنَفسِهِ، فَأمَّا مَنْ أَحَبَّكَ لَكَ فَلَا سَبِيلَ.