(إذا فَتَحَ لَكَ وِجْهَةً مِنَ التَّعَرُّفِ فَلا تُبْالِ مَعَها إنْ قَلَّ عَمَلُكَ، فإِنّهُ ما فَتَحَها لَكَ إلا وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِليْكَ؛ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ التَّعَرُّفَ هُوَ مُورِدُهُ عَلَيْكَ والأَعْمالَ أَنْتَ مُهديها إلَيهِ، وَأَينَ ما تُهْديهَ إلَيهَ مِمَّا هُوُ مُوِرُدهُ عَلَيْكَ ؟!)
معرفة الله تعالى هي غاية المطالب ، ونهاية الأماني والمآرب ، فإذا واجه الله عبده ببعض أسبابها ، وفتح له باب التعرف له منها ، وأوجد له سكيننة وطمأنينة فيها فذلك من النعم الجزيلة عليه ، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر ، وما يترتب عليها من جزيل الأجر ، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقربين ، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين ، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّل ، والأعمال التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله ، فلا تسلم من دخول الآفات عليها ، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها ، وقد لا يحصل له ما أمله من الثواب عند مناقشة الحساب ، وأين أحدهما من الآخر.
ومثاله : ما يصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تنغص عليه لذات الدنيا ، وتمنعه من كثير من أعمال البر ، فإن مراد العبد أن يستمر بقاؤه في دنياه ، طيب العيش ناعم البال ، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفهين المتورعين؛ فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة ، التي لا كثير مؤنة عليه فيها ولا مشقة ، ولا تقْطَعَ عنه لذته ، ولا تفوته شهوته ، ومراد الله منه أن يطهره من أخلاقه اللئيمة ، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة ، ويخرجه من أسر وجوده إلى متسع شهوده ، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام ، إلا بما يضادّ مراده ، ويشوش عليه معتاده ، ويكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن ، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة ، فإذا فهم هذا علم أن اختيار الله له ، ومراده منه ، خير من اختياره لنفسه ومراده لها .
وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : « إني إذا أنزلت بعبدي بلائي ، فدعاني ، فماطلته بالإجابة ، فشكاني ، قلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك » ؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عواده ، أنشطته من عقالي ، وبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، ويستأنف العمل ».
وروي عن سعيد المقبري قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال الله تبارك وتعالى : أبتلي عبدي المؤمن ، فإذا لم يشك إلى عواده ذلك ، حللت عنه عقدي ، وبدلت له لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، ثم قلت له : ااستأنف العمل .
قال أبو عبد الله محمد ابن علي الترمذي رضي الله عنه : ولقد مرضت في سالف أيامي مَرْضةً، فلما شفانى الله تعالى منها مثلتُ فى نفسى ما دبر الله تعالى من هذه العلة في مقدار هذه المدة وبين أن تكون لي عبادة الثقلين في مقدار مدتها،، إلى أيهما يميل اختياري، فصح عزمي، ودام يقيني، ووقفت بصيرتي على أن مختار الله تعالى لي أكثر شرفاً وأعظم خطراً وأنفع عاقبة، وهي العلة التي دبرها لي، ولا شَوْب فيه إذ كان فعله، فشتان بين فعله بك لتنجو به، وبين فعلك لتنجو به. فلما رأيت ذلك دق في عيني عبادة الثقلين مقدار تلك المدة في جنب ما آتاني الله، فصارت العلة عندي نعمة، وصارت النعمة منة، وصارت المنة أملاً، وصار الأمل عطفاً، فقلت في نفسي : بهذا كانوا يستمرون في البلاء على طيب النفوس مع الحق، وبهذا الذي انكشف كانوا يفرحون بالبلاء.
فهذه هي وجهة التعرف التي فتحها الله تعالى له، وحصلت له الغبطة بها، وآثرها على عبادة الثقلين والله أعلم.
فإذا أنزل الله تعالى على العبد شيئًا من البلايا فليستشعر ما ذكرناه، وليجعله نصب عينيه وليجدد تذكاره على نفسه حتى يحصل له من السكون والطمأنيننة ما يحمل عنه أثقال ذاك، ويزيل عنه مراراته، ويوجده حلاوته، وعند ذلك يكون حاله في بلائه حال الشاكرين من الفرح والاغتباط به فيرى من حق شكره أن يأتي بما يمكنه من أعمال بره، واعتبرجميع ما قلناه في هذه المسئلة بالحكاية التي ذكرها أبو العباس بن العريف رحمه الله في كتابه "مفتاح السعادة ومنهاج سلوك طريق الإرادة" قال فيه : (كان بالمغرب عمّره الله بالإسلام رجل يدعى أبا الخيار رحمه الله ونفعنا بذكره أصله من صقلية وموطنه بغداد، وجاوز سنه التسعين، وهو في الرق لم يعتقه مولاه، ذلك منه عن قصد واختيار، وعمّ جسده الجذام ورائحة المسك توجد منه على مسافة بعيدة. قال الذي حدثني : رأيته يصلي على الماء، ثم لقيت بعده محمدا الاسفنجي، فإذا هو الأبرص،، فقلت له : يا سيدي، كأن الله تعالى لم يجد للبلاء محلًّا من أعدائه حتى أنزله بكم، وأنتم خاصّة أوليائه، قال : فقال لي : اسكت، لا تقل ذلك، إنه لمَّا أشرفنا على خزائن العطاء، لم نجد عند الله شيئًا أشرف ولا أقرب إليه من البلاء، فسألناه إياه،، فطيف بك لو رأيت سيد الزهاد، وقطب العباد ،وإمام الأولياء الأوتاد بغار في أرض "طرسوس" وجبالها، لحمه يتناثر، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا، وقد أحاط به الذباب والنمل، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره وعلى ما أعطاه من الرحمة، وأسكن جسده من العافية، حتى يشد ننفسه بالحديد ويستقبل القبلة عامّة ليله حتى يطلع الفجر. وسيأتي شيء من كلام المؤلف رحمه في هذا المعنى، والتنبيه عليه، والله ولي التوفيق.