في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم
ومنها : فوالله يا إخواني ما كنت أظن أن أحدًا من أهل العلم - رضي الله عنهم - ينكر رؤية النبي يقظة حتى اجتمعت ببعضهم ذات يوم بمسجد القرويين ، ثم تكلمت معهم في ذلك فقالوا لي : كيف تصح رؤيته يقظة وقد مات - صلى الله عليه وسلم - منذ ألف سنة ومائتين وزيادة؟، إنما تصح رؤيته مناماً، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (من رآني : - يعني مناماً - فقد رآني حقًّا، فإنَّ الشيطان لا يتمثَّلُ بي).
فقلتُ لهم : حتماً : لا يراه يقظة إلاّ من رحّلته المعاني - أو تقول : - الأفكار - من عالم الأشباح هذا إلى عالم الأرواح، وهناك يراه ولا محالة، ويرى الأحبّة كلهم، فسكتوا حينئذ ولم يتكلّموا حيث قلنا لهم : إنما يرى في عالم الأرواح، لكنهم قالوا لي بعد ساعة : أخبرنا كيف ذلك ؟ فقلتُ لهم : أخبروني أنتم أين هو عالم الأرواح من عالم الأشباح ؟ فما عرفوا ما يقولون لي؛ فقلت لهم : فأين هو عالم الأشباح وعالم الأرواح . وأين هو عالم الكدر وعالم الصفاء ؟ وأين هو عالم الملك وعالم الملكوت ؟ وأين هي العوالم السفلية ثم أين هي العوالم العلوية ؟ وثم أين هي العوالم كلها ؟ وقد قيل : إنها ثمانية عشر ألف عالم، كل عالم كعالمنا هذا - كما في حلية الأولياء - رضي الله عنهم -. والكلُّ قد انطوى في الإنسان وهو لم يشعر إلا من تولّاه الله، فغطّى وصفه بوصفه، ونعته بنعته، وقد تولّى - سبحانه -كثيراً من عباده ولا زال يتولّاهم إلى خاتمتهم - رضي الله عنهم -.
قلت : فلا تبعد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم على المتمسك بسنته، المتخلق بخلقه، ولا يخيب، ولا يعيب، ولا يبعده خير، فهذا اعتقادنا، ونحن عليه إلى لقاء ربنا، إنما يبعد الخير على من أعرض عن السنة وأقبل على البدعة، فجعل عوض الأوصاف المحمودة الأوصاف المذمومة، واستغرق في الشهوات، حتى صار لا يفرق بين الحسنات والسيئات، وأما من ترك ذلك وسلك أحسن المسالك فلا يبعده خير، وكيف يبعده خير وهو على ما أمره به ربه، لا والله لا والله، لا والله، ولا شك أن أهل المعنى رضي الله عنهم هم الذين يطمعون في رؤيته صلى الله عليه وسلم إذ هم قد خرقوا عوائد أنفسهم، وتركوا سائر علائقهم، فلذلك وردت المعاني عليهم، وأما أهل الحس فلا يطمعون فيها، ولا يرجون حصولها، لأن الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية، وكيف يطمعون فيها والحس ضدها، والضدان لا يجتمعان، فمهما تقوّى الحس ضعف المعنى، ومهمى تقوّى المعنى ضعف الحس، وهو والله أي : الحس قد استولى على الناس حتى أنهم لا يشتغلون إلا به، ولا يخوضون إلا فيه، ولا يباشرون إلا إياه - والعياذ بالله - ولم يتركه إلا القليل، والله على ما نقول وكيل.
ومن كان شأنه هذا فمن أين ترد عليه المعاني ؟ إذ هي لا ترد إلا على من تركه وأيأس منه نفسه فالمعاني لا محالة ترد عليه، كما وردت على كثير من غيره، ثم ترحّله من عالم إلى عالم، إن لم يقف معها، إلى أن توصله إلى الحضرتين الكريمتين؛ الربانية والنبوية، ولا شك أن الرؤية المذكورة لا تحصل لأحد إلا بعد تخلصه من سائر عيوبه وتصفيه من سائر كدوراته. ويا عجبًا كيف تنكر وتستبعد وتستغرب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يقظة كثير من الأولياء رضي الله عنهم ورؤيتهم إياه كشمس على علم، وقد صدق - والله - غاية ولي الله تعالى سيدي البوصيري رضي الله عنه في قوله :
قد تُنكرُ العيـنُ ضوءَ الشمسِ من رمدٍ.. و يُـنـكـر الفـم طعـمَ المـاء مـن سَـقم.