تبصرة : فإن قلت قد قال تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف:55] وفسر الاعتداء بالجهرفي الدعاء كما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، فيكون الجهر مكروهًا، فلا يكون الذكر جهرا من الأفراد الممكنة شرعا للذكر، فلا يقع الامتثال به.
قلت : قد فُسِّر أيضا التضرع بالعلانية، والخفية بالسر، كما رواه أبو الشيخ عن قتادة، فالاعتداء في الدعاء إذا فُسِّر بالجهر، يُراد به رفع الصوت الزائد على قدر الحاجة، لا مطلق الجهر؛ جمعا بين الأدلة، وبذلك فسّره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، حيث قال : وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ يَقَعُ بِزِيادَةِ الرَّفْعِ فَوْقَ الحَاجَةِ أَوْ بِطَلَبِ مَا لَا يُسْتَحَبُّ حُصُوله شَرْعاً أَوْ بِطَلَبِ مَعْصِيَة، أَوْ بِمَا لَمْ يُؤْثَر، خُصُوصًا مَا وَردَتْ كَرَاَهُته كَالسَّجْعِ المُتَكَلَّفِ. انتهى.
وعليه يتنزل قول ابن جريج :إنَّ مِنَ الدُّعاءِ اعْتِداءً؛ يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، والنِّداءُ، والصِّياحُ بِالدُّعاءِ. أخرجه عنه ابن جرير وأبو الشيخ، ومن هنا قال أصحابنا وغيرهم : يُستحب رفع الصوت بالتلبية، بحيث لا يُجهد نفسه، ويدل لذلك صريحًا حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين وغيرهما، واللفظ للبخاري في الجهاد، قال : قَالَ كُنَّا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَكُنَّا إذَا أشْرَفْنَا علَى وادٍ، هَلَّلْنَا وكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أصْوَاتُنَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أيُّها النَّاسُ ارْبَعُوا علَى أنْفُسِكُمْ ...الحديث.
قال الحافظ بن حجر : (وارْبَعُوا) بهمزة وصل مكسورة ثم مُوَحَّدَة مَفتُحة أَي أُرْفُقُوا ولا تُجهدوا أنفسكم، انتهى.
فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق وهو إنما يقتضي ترك الصياح المُفرط، لا ترك أصل الجهر؛ جمعًا بين الأدلة.
ومنه : يظهر أن المراد بالجهر في قوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}[الأعراف:205] أيضًا هو الصياح البالغ، لا مطلق الجهر؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على مشروعية الجهر بالقول في الذكر، واستحبابه وبالله التوفيق.