آخر الأخبار

جاري التحميل ...

السير والسلوك الى ملك الملوك - 19


البيان الثالث


في بيان الحجب التي بين العبد وربه

وبيان ما يحتاج إليه السالك لرفعها عن اللطيفة الإنسانية
 من التوبة والإنابة والتجرد عن الأسباب وغير ذلك، مما لا بد للروح منه.

واعلم أن الروح الأعظم : هو الروح الإنساني الذي هو من أمر ربي سر عظيم ولطيفة ربانية لا يعلم كنهها إلا الله تعالى ، وله في العالم الكبير أسماء ومظاهر . وله في العالم الصغير أعني عالم الإنسان أسماء ومظاهر أيضاً .

فأسماؤه ومظاهره في العالم الكبير : العقل الأول والقلم الأعلى ، واللوح ، والحقيقة المحمدية ، والروح المحمدي ، والنور ، والنفس الكلية التي قال تبارك وتعالى : { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.[النساء:1]

وأسماؤه ومظاهره في العالم الصغير ، أعني : الأخفى ، والخفي ، وسر السر ، والروح ، والقلب ، والنفس الناطقة ، واللطيفة الإنسانية.

وهو : أعني الروح الأعظم، أول موجود أبدعه الله تعالى وأوجده، وهو الخليفة الأكبر، والسر الأعظم، وأول تنزلاته من المقام الأخفى الخفي، وآخرها القلب، فافهم.

واعلم أن القلب هو بعينه الروح الأعظم،، والخليفة الأكبر، المتنزل إلى هذه المرتبة وهو المدبر للجسم الإنساني المتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق، وذلك بواسطة الروح الحيواني، أعني : النفس الشهوانية المذكورة في المقدمة، لأن الروح المذكورة في غاية اللطافة والجسم في غاية الكثافة، والروح الحيواني بين اللطافة والكثافة، فلذلك صلح أن يكون واسطة بين الروح الأعظم بعد تنزله، وبين الجسد، ولتعانق الروح مع النفس الشهوانية سمي قلبًا، وكان ذا جهتين، جهة لعالم الحس والشهادة، وجهة لعالم القدس والغَيْب، فصارت النفس الشهوانية لكثافتها كالشيء الكثيف الحسي، الذي يُطلى به وجه الزجاجة الواحدة، لترى فيها الصورة في وجهها الآخر.

فلذلك كان القلب أشرف الأشياء وأعظمها، ومحل التجليات وخزينة أسرار الله تعالى، ومحل انتقاش الحقائق الحقية والخلقية، وقد وصفه الله تعالى بقوله : {إِ ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}[ق:37] إذ ليس المراد من القلب في الآية قطعة اللحم التي هي في جوف الإنسان، لأن تلك يشترك فيها كل الحيوانات.

واعلم أن الذي قال الله تعالى عنه له قلب هو : المرشد الكامل، وقوله : {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37] يعني : المريد المسترشد الطالب للكمال، لأن هذا ليس مُيَسَّراً لكل إنسان، لأنه إن توجه إلى عالم الشهادة بحيث ينسى عالم القدس والتنزيه، حُجب عنه ما فيه من الخواص العلوية، وصار حيوانًا، وإن توجه إلى عالم الغيب بحيث ينسى عالم الشهادة والتشبيه حُجب عنه أيضًا ما عرض له من الخواص السفلية، وصار ملكًا وإن توجه إلى أحد العالمين، ولم يذهل عن الآخر، كان إنساناً كاملًا.

وهذا مقام عال، لا يتيسر لأحد إلا لمن سلك طريق المقربين، بعد مجاهدة النفس الجهاد الأكبر، ومتى كان القلب متوجهًا إلى الجسد بالتنعمات في اللذات الدنيوية، والشهوات النفسانية، كا محجوبًا بسبعين حجابًا، ويسمى القلب في هذه المرتبة بالنفس الأمارة،، لأنه حينئذ يتصف بالغضب المذموم، وبالحقد، والحسد والكبر، والتعاظم، والعجب، والغرور، وسوء الخلق وغير ذلك من الأوصاف المذمومة المذكورة في الباب الثاني، المبعدة عن حضرة ربه.

ولا تستغرب بهذا الأمر لأن اتباع الشهوات يجعل العزيز ذليلًا. روي أن امرأة العزيز قالت ليوسف الصديق عليه السلام : "يا يوسف إن الحرص والشهوة صيّر الملوك عبيدًا، وإن الصبر والتقوى صيّر العبيد ملوكًا"، فقال لها : "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين". وذلك لأن القلب حقه أن يكون أميرا على البدن، والبدن مطيعا لأوامره ونواهيه، فإذا غلبت الشهوة عليه صار الأمير مأمورًا وانعكس الأمر، فيصير الملك أسيرا مسخرًا في يد كلب أو عدو قاهر، ولهذا إن الرجل إذا أطاع داعية الشهرة والشهوة يرى نفسه في النوم ساجدًا بين يدي خنزير أو حمار، وإن أطاع الغضب يرى نفسه ساجدًا بين يدي كلب.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية