آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التربية النبويّة -20

الكناية بذكر المخالف دون تخصيصه والعكس

والمقصود بهذا السلوك عدم فضح عورات الصحابة، لأن المخالفة والذنب ملازم للبشر، والمزكي يكون على علم بهذا الأمر، فلا يسمي المخالف ولا يعَينه، ولا يظهر مخالفته حفاظًا على كرامته ونفسيته بين أهله وأصحابه، ولكنه يعلم أنه المراد بإشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيزيد ذلك في حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، حب التلميذ لأستاذه الذي يصفح عنه، ويستر زلته.

فقد صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه،، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب وحمد الله ثم قال : «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً».1

وقال صلى الله عليه وسلم : «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ.2وَصَعِدَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ - فَقالَ: ما بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليسَ في كِتَابِ اللَّهِ؟! مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا ليسَ في كِتَابِ اللَّهِ، فليسَ له، وإنِ اشْتَرَطَ مِئَةَ مَرَّةٍ».3

عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَا يُوَاجِهُ الرَّجُلَ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا رَجُلٌ ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : «لَوْ غَيَّرَ - أَوْ نَزَعَ - هَذِهِ الصُّفْرَةَ»..4

بل كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون رضى الرسول صلى الله عليه وسلم وغضبه من وجهه الكريم، وهذا قمة التربية والتوجيه عند المزكي، وقمّة المحبة والتعلق عند المزكى.

فَعَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْريُّ رَضيَ اللهُ عنه قال : كان رسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أشدَّ حياءً من عذراءَ في خِدْرِها، وكان إذا كرِه شيئًا عرَفْناه في وجهِه.5

وَحَدَّثَ كَعْبَ بنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عن تَبُوكَ فَقَالَ : فَلَمَّا سَلَّمْتُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَبْرُقُ وجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وجْهُهُ، حتَّى كَأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وكُنَّا نَعْرِفُ ذلكَ منه.6

وقد يعمد المزكي إلى مخالفة هذا المبدأ فيوجه الخطاب مباشرة إلى المعني بالأمر إذا رأى فيه مصلحته ونفعه أو إذا كان مقامه عند الله ورسوله عظيما، فيأتي النصح والتوجيه على قدر هذا المقام، وهذا أيضا من حبه صلى الله عليه وسلم لصحابته وعلمه العظيم بما يصلح لهم.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الأنصار حبا خاصا، وكانت لهم منزلة كبيرة في قلبه صلى الله عليه وسلم وذلك لما أسدوه من خدمة عظيمة للإسلام والمسلمين وقت الشدّة والضيق، إذ فتحوا مدينتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وآزروه وعزروه ونصروه، وجاهدوا في سبيل سلامته بالمال والأنفس، فقال في حقهم عز وجل : {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚوَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.7

وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِي حَقِّهِمْ : «وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّكُمْ لأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ».8

وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ : «الأنْصارُ لا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضُهُمْ إلَّا مُنافِقٌ، فمَن أحَبَّهُمْ أحَبَّهُ اللَّهُ، ومَن أبْغَضَهُمْ أبْغَضَهُ اللَّهُ».

ولهذا الأمر اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحوالهم اهتماما خاصا، ولما بلغه عنهم شيء خاطبهم بالخطاب المباشر ليحافظوا على مكانتهم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقامهم في الإيمان. 

فعن أنس : «قالَ نَاسٌ مِنَ الأنْصَارِ، حِينَ أفَاءَ اللَّهُ علَى رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما أفَاءَ مِن أمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا المِئَةَ مِنَ الإبِلِ، فَقالوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا ويَتْرُكُنَا، وسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِن دِمَائِهِمْ، قالَ أنَسٌ: فَحُدِّثَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَقالتِهِمْ، فأرْسَلَ إلى الأنْصَارِ فَجَمعهُمْ في قُبَّةٍ مِن أدَمٍ، ولَمْ يَدْعُ معهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: ما حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ، فَقالَ فُقَهَاءُ الأنْصَارِ: أمَّا رُؤَسَاؤُنَا يا رَسولَ اللَّهِ فَلَمْ يقولوا شيئًا، وأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أسْنَانُهُمْ فَقالوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا ويَتْرُكُنَا، وسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِن دِمَائِهِمْ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فإنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَديثِي عَهْدٍ بكُفْرٍ أتَأَلَّفُهُمْ، أما تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأمْوَالِ، وتَذْهَبُونَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَما تَنْقَلِبُونَ به خَيْرٌ ممَّا يَنْقَلِبُونَ به قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ قدْ رَضِينَا، فَقالَ لهمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ ورَسوله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنِّي علَى الحَوْضِ».10

فتأمل - عافاك الله - كيف تغير حالهم م العتاب إلى الرضا بما يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بهذه المواجهة المباشرة التي بينت للأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبهم ويخاف أن تنكر قلوبهم عليه، وذلك فعل يحبط العمل، لأن ما يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يكون بأمر الله وبإذنه، وبما تستدعيه المصلحة الشرعية التي تحفظ للإسلام قوته، لذلك جمعهم جميعا دون أن يدخل معهم غيرهم حفاظا على سلامة صدورهم، ورعاية لكرامتهم، ومثل هذا تفعله الأسر والعائلات العاقلة حين يحتدم بينها الصراع حول أمر معين فيلتجئون إلى الاجتماع لحل النزاع دون أن يشركوا غريبا بينهم، وذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ بين لهم أن جمعهم هذا هو جمع عائلة واحدة يجمعها مبدأ واحد ومصير واحد وهدف واحد، لا ينبغي أن يفرقها شيء مهما علا شأنه، والأعظم من هذا إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية العظمى من الله إليهم، فقد هداهم للإيمان وهو في حياته، وسيبقى جسده الشريف بينهم بعد الممات.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : «كانَ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ، وكَانَتْ أُمُّهُ أعْجَمِيَّةً، فَنِلْتُ منها، فَذَكَرَنِي إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ لِي: أسَابَبْتَ فُلَانًا قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: أفَنِلْتَ مِن أُمِّهِ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ،، قُلتُ علَى حِينِ سَاعَتِي: هذِه مِن كِبَرِ السِّنِّ؟ قالَ: نَعَمْ، هُمْ إخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن جَعَلَ اللَّهُ أخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا يُكَلِّفُهُ مِنَ العَمَلِ ما يَغْلِبُهُ، فإنْ كَلَّفَهُ ما يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عليه».11

فقد جاء العتاب من جنس مقام أبي ذر في الإسلام، فهو نفسه الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم :«ما أَقَلَّتِ الغبراءُ، وَأظلَّتِ الخَضْرَاءُ أصدقَ لَهْجَةٍ من أبي ذرٍّ».12

ولأجل ذلك فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته أن يبلغ أحدهم زلات الآخر، ويفضح عيوبه، أو أن ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك يغير قلبه صلى الله عليه وسلم فيحرمون من سلامة صدره صلى الله عليه وسلم التي ينتفعون بها ويستمدون منها، لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، وهذه الرحمة تخرج من قلبه نورا فتتوزع على أصحابه وأمته، فقال صلى الله عليه وسلم : «لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدرِ».13

ورغَّب صلى الله عليه وسلم الصحابة في ستر عورات بعضهم،، فذلك أسلم لهم وأرشد، لتبقى نظرة التعظيم والتوقير فيما بينهم، ولكي لا يفسد الشيطان ودهم ومحبتهم،، فقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أحدَكم مِرْآةُ أخِيه ، فإذا رأى فِيهِ شَيْئًا فَلْيُمِطْهُ عنْهُ».14

وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيِعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ».15

وقال صلى الله عليه وسلم : «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».16، إنه البناء الصحيح للمجتمع الذي ينطلق من بناء شخصية المسلم وذلك بتهذيب أخلاقه، وتصحيح سلوكه، وبث روح المحبة والتعاطف فيه، ونبذ الأسباب المؤدية إلى التفرق والخصام لأن ذلك ينخر الجماعة من الداخل، ويفتت قوتها فتفشل وتنهزم، وصدق عز وجل إذ يقول : {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }.17

**   **   **

1 - صحيح البخاري عن عائشة كتاب : الأدب.
2 - المرجع نفسه. عن أنس، كتاب : صفة الصلاك.
3 - المرجع نفسه. عن سفيان ، كتاب : المساجد.
4 - الأدب المفرد البخاري عن أنس.
5 - صحيح مسلم. كتاب : الفضائل.
6 - صحيح البخاري، كتاب : المناقب.
7 - سورة الحشر : 9.
8 - صحيح البخاري عن أنس، كتاب فضائل الصحابة.
9 - المرجع نفسه. عن البراء بن عازب، كتاب : فضائل الصحابة.
10 - صحيح البخاري. كتاب : الخمس.
11 - صحيح البخاري. كتاب : الأدب.
12 - سنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو.
13 - مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود.
14 - سنن الترمذي عن أبي هريرة.
15 - المرجع نفسه.
16 - صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو
17 - سورة الأنفال:47

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية