وإن الإمام الشاطبي - أجزل الله ثوابه - قد فرَّق بين الحق والباطل، وأطاح ما رواه عن شيوخ التصوف في إثبات السنّة ودحض البدعة، وإرساء قواعد الدّين القويم بكثير من الرؤوس، الضالّة المضلّة. علّه يعيد قطار المنكرين والمعارضين جهلًا إلى سكته.. وسيأتي في كلامه أنّ الذين يتقوّلون على أصحاب الحقّ والحقيقة، وينسبون إليهم ما منه برآء يوجد مثلهم في عصره. وجيوش الشيطان لا تنام حتى تكون في كل بلَد أولياء الشيطان ضد أولياء الرحمان، كما عبّر به الإمام ابن تيميّة.
بعد ما نقل الإمام الشاطبي تلك الحكم البليغة، والآراء المسؤولة الرائدة، إن لم نقل الأدلّة القويّة، والحجج الدامغة، الناطقة بالحق والحقيقة، والرَّافعة للسنّة والواضعة للبدعة، والقائمة على مصدرين أساسِييْن في التشريع : هما الكتاب والسنة، وبهما أطّر أصحاب الحقيقة الصوفيّة مناهجهم في الحق، يقول - كما تقدّم بعضه - : "وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ، وَقَدْ نَقَلْنَا عَنْ جُمْلَةٍ مِمَّنِ اشْتُهِرَ مِنْهُمْ يَنِيفُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْخًا، جَمِيعُهُمْ يُشِيرُ أَوْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الِابْتِدَاعَ ضَلَالٌ وَالسُّلُوكَ عَلَيْهِ تِيهٌ، وَاسْتِعْمَالُهُ رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَمَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَطْرُودٌ عَنْ نَيْلِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمُ الطَّرِيقَةُ مُجْمِعُونَ عَلَى تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ، مُقِيمُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، غَيْرُ مُخِلِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِهَا، أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا. وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى فِرَقٍ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَلَا مَنْ يَمِيلُ إِلَى خِلَافِ السُّنَّةِ. وَأَكْثَرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ وَمُحَدِّثُونَ وَمِمَّنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ الدِّينُ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي دِينِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ".
وما حجّة أدعياء العلم والسلفيّة الجديدة، الذين يعارضون وينكرون ويدّعون جهلًا عن غير علم ؟ هل اتّفق معهم إمام سلفيّ، أو مجتهد شرعيّ، أو عالم ربّانيّ محقّق، أو وليّ عارف بالله ؟ في حقيقة الصوفيّة وسوء تصرّف المسلّطين عليهم، أردف الإمام الشاطبي قائلًا :
"وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَقَائِقِ وَالْمَوَاجِدِ وَالْأَذْوَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ التَّوْحِيدِيَّةِ، فَهُمُ الْحُجَّةُ لَنَا عَلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى طَرِيقِهِمْ وَلَا يَجْرِي عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، بَلْ يَأْتِي بِبِدَعٍ مُحْدَثَاتٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَّبَعَاتٍ، وَيَنْسُبُهَا إِلَيْهِمْ، تَأْوِيلًا عَلَيْهِمْ. مِنْ قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ، أَوْ فِعْلٍ مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ، أَوِ اسْتِمْسَاكًا بِمَصْلَحَةٍ شَهِدَ الشَّرْعُ بِإِلْغَائِهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، يَرْتَكِبُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا، وَيَحْتَجُّ بِحِكَايَاتٍ هِيَ قَضَايَا أَحْوَالٍ، إِنْ صَحَّتْ; لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ، لِوُجُوهٍ عِدَّةٍ، وَيَتْرُكُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْحَقِّ الصَّرِيحِ، وَالِاتِّبَاعِ الصَّحِيحِ، شَأْنُ مَنِ اتَّبَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا تَشَابَهَ مِنْهَا.
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ فِي طَرِيقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ كَسَائِرِ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمْ، أَتَيْتُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَقُومُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى (مُدَّعِي) السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدْعَةِ فِي طَرِيقَتِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا لَنَا مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ عُمُومًا، وَعَلَى الْمُدَّعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ خُصُوصًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ".(1) انتهى بنصّه.
وإنه لأقوى حجّة وأروعها، أن يعتمد إمام عالم سنّيّ سلفي في مستوى الشاطبي على شيوخ التصوّف في إثبات السنّة ودحض البدعة، ليقيم الدليل - كما قال - على مدّعي السنّة لنفسه، وذمّ البدعة في طريقتهم. وإنه لو بلغنا الكتاب الذي عزم على وضعه في التصوّف لكان أكبر حجّة للصوفية الحقيقيِّين، وأقسى ضربة للمشعودين والمضلِّلين، وأعداء أولياء الله الصالحين، إلّا أنّ لفظ المتأخِّرين عن زمن السلف الصالح، الذي ركّز عليه، قد يشمل الصوفيّة والسلفيين وعلماء الشريعة، ويعني في الحقيقة المتأخرين في الصدق والإخلاص، والالتزام بشرع الله، والعمل بكتابه واتباع سنّة نبيِّه في كلِّ زمان ومكان.
وأخيرًا، وعلى ضوء ما عتمده ودوَّنه وذيَّله بتوضيح الغاية التي نقله من أجله، نتساءل مرة أخرى : من السنيّ في بحث الإمام الشاطبيّ ؟ الذي تخلَّق بأخلاق القرآن، وتحلَّى بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسلوكه وأفعاله وأخلاقه، أم الذي يقول عن جهل، ويدّع عن غير علم ؟ ومَن المصلح الاجتماعي ؟ الذي يجمع الشمل، ويؤاخي ويسالم، ويحسن الظن، ويعتقد الخير، حتى يظهر الشر، أم الذي يفرِّق الصفوف، ويسمِّم الأفكار، ويشاقق ويسيء الظن، ويعتقد الشرّ، ربّما في أهل الخير ؟ وأين يوجد الإسلام بكمال معانيه ؟ أعند الذين جمع الله لهم بين صلاح الظاهر والباطن، وبين كمال الشريعة وكمال الحقيقة، أم عند الذين يحفظون الأقوال والآراء وقلوبهم هواء ؟ إنَّنا قد أصبحنا في وضع انقلبت فيه الحقائق، فصار الحق باطلًا والباطل حقًّا.. و لا شكّ أنَّ غياب البحث العلمي النزيه، المجرَّد عن أيِّ اعتبار، من النوع الذي يُنجَزُ بأمانة علمية مسؤولة، كما تجلَّى فيما أنجزه الإمام الشاطبي، وينجزه الإمام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهم، قد ساهم في خلط الأوراق، وارتكاس القيم، وقلب الحقيقة، نتيجة فراغ خلقه تقاعس المتخصِّصين في الدراسات الشرعيّة، وسَدَّه مَن حمل جواز الجهل والجهالة.. والله أعلم بالصواب.
** **
1 - الاعتصام 99/1