آخر الأخبار

جاري التحميل ...

دليل شرف الذكر وفضله ورفيع درجته

مما ورد في الكتاب والسنة من الدليل على شرف الذكر وفضله ورفيع درجته، ولذلك جعله أهل المعرفة وسيلة إلى الله تعالى فلازموه وحافظوا عليه.

فإن قلت : لِمَ كانت أعمال البر كلها دون الجهاد، وكان الجهاد وسائر أعمال البر دون الذكر ؟

فالجواب : إن أعمال البر كلها إنما مقصودها الأعظم تصفية النفس وتطهيرها بإتلافها عن مألوفاتها، وإخراجها عن هواها حتى تلحق بعالمها، خلية عن الالتفات إلى شيء من إلى شيء من متعلقاتها، فمت كان من الأعمال أقرب لهذا المعنى وأعون عليه فهو أفضل، مع أن علل النفس منها ما يظهر لأول تأمل، ومنها ما هو أخفى من دبيب النمل، وأعمال البر مسلطة على محو هذه العلل، وذهاب ’ثارها بطهارة النفس.

لكن أعمال البر متفاضلة في أحكام هذه الطهارة :
- منها : ما يذهب من العلل ما ظهر دون خفي.
- ومنها : ما يذهب الظاهر والخفي دون الأثر.
- ومنها : ما يزهر الظاهر والخفي وأثرهما حتى تعود النفس إلى نهاية صفائها مطمئنة بربها.

ولا شك أن الجهاد الحقيقي مؤذن بإتلاف النفس عن مألوفاتها، وإخراجها عن عالم الحس إلى عالم الغيب لكن لا يعرى ذلك عن العلل الخفية المعربة بالإبقاء على النفس بعض أوهامها والنفس تتحمل المشاق العظام مع الإبقاء عليها ولو بعض أوهامها وبهذه العبرة قصر الجهاد على الالتحاق بفضيلة الذكر؛ لأن الذكر إذا استعمل على طريقه المعروف، ومهيعه المألوف، مبنيًّا على قواعد الشرع، محفوظًا من خطوات الزيغ، فإنه لا يدع من علل النفس شاذة ولا فاذة ولا أثرًا إلا أتى على ذلك بالذهاب، حتى تبلغ النفس غاية طهارتها، ولا يبقى عندها التفات إلى غير الله تعالى.

كل ذلك عن علم وذوق؛ ولذلك سُمِّيَ طريق الذكر المؤذن بخلاص النفس "جهادًا أكبر" وسُمِّيَ الضرب بالسيوف والطعن بالرماح "جهادًا أصغر" ولِما في طريق الذكر من قطع المفاوز والمخاوف التي تخرج النفس عن جميع متعلقات الجسم كخروج الشعرة من العجين، وليس يدرك ذلك بسائر أعمال البر جهادًا أو غيره.

وإن كان من سائر أعمال البر ما يؤذن بخلاص النفس وتصفيتها، فللذكر خاصية في ذهاب الآثار؛ إذ لا يكون تخليص إبريزها من كدرات أوهامها أو أثرها إلا بشعيرة الذكر، فظهر لك أن للذكر اختصاصًا عجيبًا في طهارة النفس الطهارة التامّة وتصفيتها التصفية العامة حتى تصير لها الطهارة صفة ذاتية، وغير الذكر يبقى معه من علل النفس ما هو حجاب عن الله، وإن كان خفيًّا.

وقد تقنع النفس بذلك الخفي وتتحمل لأجله المشاق، وتقتحم المضايق من الطاعات راضية بذلك؛ لأن إخراجها عن جميع هواها هو البلاء العظيم، لكنن وراءه من المعارف الإلهية والأسرار القدسية، والحكم الربانية ما تقر به الأعين، وتنتظم به الأفراح، وتذهب به الأحزان، فلا مخلص من علل النفس إلا بالذكر.

وبيان ذلك أن العبد إذا داوم على الذكر حتى انطبع معناه في النفس وقام بها، فإن النفس تنقلب إلى مقتضى الذكر متصفة بمعناه، وإن كانت الأذكار مختلفة المعاني، فلكل ذكر اختصاص بصفة حميدة فأكثر ذكر تتحلى بها النفس وتتزكى عن أضدادها، فلا تزال الأذكار تصفي النفس من كدراتها، وتخلصها من عللها، حتى تطمئن لخالقها فلا تجد أُنسًا بغيره، قال الله تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.[الفجر:27-30]

وليس المراد من الذكر هنا دورانه على اللسان فقط، لكن المراد منه تلمح معناه بعين الفكر حتى ينطبع معناه في النفس، فتتحلى به وتتصف لمقتضاه اتصافًا ذاتيًّا أو كالذاتي، وقد نبسط الكلام في هذا المعنى بعد بحول الله تعالى، حتى يظهر لك بالبرهان أن الذكر يجرد النفس عن كل خلق ذميم، ويحلِّيها بكل خلق حميد، وهذا أمر يصعب على النفوس مذاقه لأنه موتها الأعظم، لخروجها به عن مألوفاتها الجسمانية، ورجوعها إلى عالمها الروحاني ولذلك عظم أمر النفس وإن كان أيسر، فتبين لك بما قررته أن الذكر أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية