المبحث الثاني
ذكر "الحضرة" والأحوال الباطنية ومصدرها
وموقعها وأنواعها ونتائجها بين الصوفية
والسلفيين والعلماء المنكرين
حكم الأحوال بين الغلبة والاختيار
في موضوع الأحوال الباطنية، اتّفق العلماء، من الصوفية الحقيقيين، والسلفيينن الحقيقيين والعلماء المحققين على رفض ما فيه تكلّف أو تصنّع، مما يصنعه الإنسان بنفسه، وبمحض إرادته، مما يقع بالجسم دون الروح، وبالظاهر دون الباطن، وقبول ما يأتي بصفة تلقائية شعوريّة وجدانيّة، أثرًا لذكر الله، وسماع آياته وأسمائه وصفاته، خاصة إذا كانت من الأحوال القلبيّة الغالبة، التي تقع في الباطن، وتظهر على الظاهر. وهي التي يخلقها الله في قلب المؤمن. والله يخلق المعنويّات كما يخلق الماديّات {هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}.[لقمان:10]
وفي ذلك يقول الإمام ابن تيميّة : "والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء - الصوفية - إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه. وإن كان حال الثّابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا، قال : قُرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطّان، فغشي عليه. ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد. فما رأيت أعقل منه. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة. وبالجملة فهذا كثير ممن لا يُستراب في صدقه". واستطرد قائلًا : "ولكن الأحوال التي كانت في الصحابة، هي المذكورة في القرآن. وهي وَجَل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2] وقال تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ}[الزمر:23]وقال تعالى : {إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:58] فكان الحال الرباني يصدر عن تأثير أنوار الذكر، وتلاوة القرآن في قلوب المؤمنين الصادقين المخلصين.
وقد رأى الإمام ابن تيمية أن الحال من لوازم الإيمان، فقال : "إن من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه بحيث إذا كان الإنسان مؤمنا؛ لزم ذلك بغير قصد منه ولا تعمد له وإذا لم يوجد؛ دل على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب". وربط ابن خلدون بين الحال والمجاهدة، وتعني الإدمان في العبادة على الذكر، وتلاوة القرآن إلى جانب المحافظة على الفرائض بدقّة، ورأى أن المجاهدة تستلزم وجود الحال في القلب، وأشار إلى ما قرّره علماء الصوفية وشيوخهم، من أن كل مرحلة من مراحل السلوك تبتدئُ بحال عارضة، تأتي تارة وتذهب أخرى، حتى ترسخ، فتصير مقاما ثابتا، فقال : "المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد، وإما أن لا تكون عبادة...إلخ" خلط بين الحال والمقام. مع أن العبادة - كالأفعال الظاهرة - فرض على كل مسلم، والذي يتحوّل إلى مقام من المقامات المعنوية، هو الحال القلبيّ الباطنيّ.