وَظَلامُ الَّليلِ لَهُ سُرُجٌ * حَتَّى يَغْشَاهُ أَبُو السُّرُجِ
"الظلام" : خلاف النور، والشمس تسمى سراجًا، و"الغِشيان" - بكسر الغين - : الإتيان.
والظاهر أن الشيخ أراد بهذه الألفاظ معانيها الحقيقية، فأبو السرج هي الشمس فإن أنوار القمر مستفادة منها، وغلبَها الشيخ على النجوم، فكلامه فيه تشبيه ذكر أحد طرفيه وهو المشبه به، وطوى ذكر المشبّه فكأنه يقول : المصائب وأحزانها الشديدة لا بد في أثنائها من ألطاف يخف معها الغم، حتى يتفضل الله بالفرج التام الذي لا يبقى معه كرب كالليل المظلم، جعل الله الكواكب فيه يقل بها ظلامه ويخف قبضه حتى يأتي النهار فيذهب ظلامه كله وتنشرح النفس بتمام النور واستكمال الضوء، قال ابن عطاء الله رحمه الله تعالى : (مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدَرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ).
وسَحابُ الخَيرِ لَهُ مطرٌ * فإذا جاء الإبَّانُ تَجِي
"السحاب" : الغيم ويجمع قياسًا على سحب وسحائب، والخير ضد الشر، و"المطر" واحد، الأمطار معروفة، و"الإبان" - بالكسر وتشديد الباء - : الوقت، فالشيخ يبين أن السحاب لما يبتلي ذوي الشدائد بأنها وإن عظمت وتطاولت ففي أثنائها ألطاف تؤذن بأن الشدة لا بد أن يتكامل فرجها، أشار هنا إلى التزام الصبر في زمن الشدة؛ لأن الفرج لا يأتي إلّا في زمانه المُقدر له كالسحابة التي يكون عنها الخصب بنزول المطر لها وقت مقدر لا تحصل إلا فيه، فالعاقل إذن لا يسعه إلا الصبر ويكون الجزع حينئذ محنة للقلب بغير فائدة بل يورث سخط الله ومقته، فينبغي أن يكون حظه التسليم لمدبر الأمور بحكمته وتحسين الظن بسعة رحمته، قال الله تعالى حكاية عن العبد الصالح : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚإِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}[غافر:44] فانظر كيف أعقب تفويضه الوقاية من الأسواء والنصر على الأعداء وبلوغ المراد، ثن إن انتظار الفرج بنزول الصبر من أجلِّ العبادات، وتعين عليه استحضار رحمة الله بعباده المؤمنين وإنه عالم بعواقب الأمور، ولعل الفوائد في صور الشدائد.
قال السيد الجليل أبو الحسن الشاذلي : (اللهم إنَّا قد عجزنا عن دفع الضرِّ عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم) ويكفي قوله العاقل قوله تعالى : {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة:216]، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء:19].
فليتذكر صبر أولي العزم على المصائب العظام من الأنبياء والأولياء والأعزة على الله عز وجل، وكم مَنْ أراد أمرًا فصرفه الله عنه فوجد لذلك عَمًا في قلبه، حتى إذا كشف له عن عاقبته علم أنه سبحانه وتعالى نظر إليه بنظره السديد من حيث لا يدري، ولطف به بلطفه الجميل من حيث لا يدري، ولطف به بلطفه الجميل من حيث لا يعلم، ومن أحسن ما قيل :
توقع صُنع ربك سوف يأتي * بما تهواه من فرج قريب
ولا تيئس إذا ما نابَ خطب * فكم في الغيب من عجب عجيب
وقول الآخر :
إذا اشتد بك الأمر * ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين * إذا ذكرته فافرح
و فوائد مولانا جُمَلٌ * لسُروج الأنفسِ و المُهَجِ
"الفوائد" جمع فائدة وهي ما استفيد لنفع الدين والدنيا، و"المولى" : مفعل من الولي بالسكون وهو القرب، فالله ولي أمر عبده أي قريب منه بالعلم لا بالمكان لاستحالته في حقه تعالى، "جُمَل" أي مستكثرة من أنواع لا تحصى قال الله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النحل:18]، وواحد الجمل فعلة بمعنى مفعولة، و"السروح" بالمهملتين واحدة سرح، وهو في الأصل المال السائم، أي الراعي كالبقر والإبل والغنم، واستعمل هنا السارح من "الأنفس" لطلبه منفعة معاش أو معاد، وروي بالمعجمة في شرح الصدر تفسيحه وجمعه باعتبار الأنواع، و"المهج" جمع مهجة، قيل : هي الدم، وقيل : دم القلب خاصة، وقيل : الروح وهو مراده، المعنى عطاء الله وافر مُعَدّ لشرح النفوس بإذهاب أحزانها فكيف ييأس العاقل عند اشتداد الأزمة وتطاول الكربة مع أن ضمن الشدائد فوائد، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني، فقال : (لَا تَتَّهِمِ اللهَ فِي أَمْرٍ قَضَاهُ عَلَيْكَ).
وروى الشيخان عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ حتَّى الهَمِّ يُهَمُّهُ، إلَّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِهِ)، ورويا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال :قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذًى؛ مَرَضٌ فَما سِواهُ، إلَّا حَطَّ اللَّهُ له سَيِّئاتِهِ، كما تَحُطُّ الشَّجَرَةُ ورَقَها).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ( مَنْ يُرِد الله بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ).
وروى مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال : قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له).
وقال عيسى عليه السلام : (لاَ يكون عالمًا مَن لم يَفرَح بدُخولِ المَصائِب والأ/راض على جسده، ومالهِ، لِما يرجُو بذلكَ من كفّارة خطاياه)، وكان السلف الصالح يستوحشون إذا خرج عنهم لم يصابوا فيه بنقص من نفس أو مال، ويقال : لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوماً أن يروع بروعة أو يصاب بنكبة، وكانوا يكرهون فقد ذلك في هذا العدد.