آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الدرر الجمالية - أبو جمال والمعرفة بالله


الحمد لله الولي الذي عرّف أحبابه به، وأوردهم موارد أُنسه، وأمدّ أرواحهم بمدد شهوده وقدسه، فجرت مجاري أنفاسهم بنفحات أنواره، وتدفقت بحار سرائرهم برَشْحات أسراره.

والصلاة والسلام على أفضل كل موجود، ومن هو الواسطة في إبراز جميع العوالم إلى هذا الوجود، سيدنا محمد أكرم نبي مرسل، وأعظم مَن به في عظائم الأمور نتوسل، وعلى آله أصحاب الصفا، وصحابته أهل المودّة والوفا، أما بعد :

الدرر الجمالية اليوم خاصة بشيخنا العارف بالله أبي جمال حمزة بن العباس قدس الله روحه في ذكراه (الخامسة)، نستحضره من خلالها، ونتذكر كلماته الجميلة، التي صداها ما زال في آذاننا، وعقولنا تائهة في معانيها، وهو الذي يقول:

شمس التحقيق سطعت من فؤادي *** فيا عجبا لمستتر وبـــــادي
فإن قلت فخطابي مني إليــــــــه *** وإن سمعت فما متكلم سـواي
وإن نظرت فبصري واقع علي *** والكل نوري مشيرا مني إلـــــي
فصدق وسلم أمــــــــرك إلي *** واطرح نفسك ميتا بين يــــدي
وخلِّ عنك لي ومني وإلــــــي *** تبلُغ بحبي مقــــــــــاما عليـــــــا
فاستيقظوا يا معشر النيـــــــــام *** بإذن الحضرتين أدعوكم للقيام

نتحدث عن سيدي حمزة من خلال ما قاله شيخنا سيدي جمال عنه لأنه أعرف الناس به، فقد وصفه بقوله : شيخي الدال على الله تعالى وسندي، وأُسوتي في محبة سيدنا رسول الله ورائدي، الذي شُرفت بكونه أيضًا رضي الله عنه وأرضاه والدي، العارف بالله وموطئ سبيل الوصول إليه على سَنَن جدِّه رسول الله وسياجه المنير الداعي إليه، أكملُ صلوات الله عليه، مجدِّد المَتْحِ من معين الجمال، والخضوع لذي الجلال، والتخلُّق بأخلاق من اتصف بالكمال، سيدي حمزة بن سيدي العباس القادري بودشيش زاد الله في مدده ونفعنا ببركاته، وجعلنا من متجليات تقويماته آمين.

إن ذكرى سيدي حمزة فرضٌ علينا لأنه حيٌّ في قلوبنا وفضائله شاهدة علينا ظاهرة فينا، ومحبته كنزنا وذخرنا يوم لقاء ربنا، فكما قال سيد المرسلين عليه الصلاة والتسليم :(المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه :(إذا رزقكم الله مودّة امرءٍ مسلمٍ فتشبّتوا بها).

 يقول سيدي جمال عن الاحتفاء بذكرى شيخنا سيدي حمزة وعطائاته غير المنقطعة : اعلموا أنَّ الإنسان لا يموت بمجرد أنَّ أنفاسه انتهت، فالذين خطُّوا مسيرتهم البطولية، والذين تفانوا من أجل طاعة الله فسيبقون أحياء مصداقًا لقوله تعالى : {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فهذا الرجل الواصل الموصل بما قدَّم وأعطى، وما بذل ونظَّر، وما ساهم به في تربية الأجيال الناشئة على طاعة الله ورسوله.

 فعلى كل مُنتفع ومُتلق أن يذكره ذكرًا يتناسب مع عطائه وإنجازه الكبير، وأجمل الذكر للإنسان بعد موته كما قيل : لا يكون الصديق صديقًا حتى يذكر أخاه في ثلاث : في غيابه وفي محنته وبعد مماته. والآن نحن نعيش سويًّا في فيوضات سرِّه .

سادتي أحبابي 

إن حمزة هو سرُّ الكلمة الطيبة التي نُقشت حروفها في صحائفنا، وهو نقطة السر التي زيَّنت وجودنا، وطابت معانيها على عقولنا، وهو الماء الزُّلال الذي جرى في عروقنا، والكأس الدائر الذي روى ظمأنا، والنور الذي أنار طريقنا ،وهو الجمال الذي سبى ألبابنا، وهو نغمة الحب التي شنَّفت مسامعنا، وهو الشمس التي سطعت على قلوبنا، فجعلتنا محبين مأخودين عاشقين لله تعالى ولكلِّ ما خلق. لقد كان سيدي حمزة صادقا ومخلصا وعلى بصيرة في دعوته إلى الله؛ لأنه كان يدعو إلى الله بإذن الحضرتين، ولم يكن يدعو إلى نفسه أو بنفسه، وقديمًا قد قيل : (مَن دعا إلى الله بالله فهو صادق، ومَن دعا إلى الله بنفسه فهو كاذب) لذلك أحيت دعوته الصادقة القلوب الميِّتة، وأمدَّتها بسرِّ المحبوب، وتيَّهتها في أسرار الذَّات المنزَّهة عن التجسيم والحلول، وعلَّمت طريقته العلم النافع، وعرفوا أنّ عطاء الله لا ينقطع، وأنَّ سرَّ الحقِّ في الخلقِ، فمن عرف نفسه عرف ربَّه، وأنّ ذكر الله تعالى المأذون طبيب معنوي لداء العصر.

سادتي أحبابي 

لقد وصف سيدي جمال والده وشيخه بأوصاف أُجمِلُ بعضها فيما يلي : هذا الرجل الكريم كان جميل الخَلْقِ والخُلُقِ، كان معدن أسرار وأنوار وفتوحات ربّانيّة عظيمة، ووليًّا مُرشدًا إلى طريق الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان هيِّنًا ليِّنًا كالسُّنبلة، وَدودًا بَشوشًا، مستبشرًا متبسِّما، كان الوالد وارثًا لهذه الأخلاق المحمدية الكريمة، بعيدًا كلّ البُعد عن التزمُّت والتشدُّد، كان بحقٍّ مِن أنقى وأرقى وأتقى عباد الله الصالحين، الذين يحبُّون الله ويحبِّبُونه إلى عباده بالكلام الحلو الطيِّب، كان جوادًا كريمًا، ويحبُّ الكرم ويدعو كافة المريدين والمريدات إلى التحلي به بُغية الاتصاف به ،ابتغاء مرضاة الله؛ لأن الله كريم ويحب الكرم. لقد انتقل سيدي حمزة يقول سيدي جمال بعد عُمر حافل بحمد الله جلّ وعزّ من الغَرسِ والإعمار والرَّفْدِ والتَّشْدِيبِ والتهذيب والمعالجة والتطبيب، حتى ازدهرت كما بشّر به العارفون الثمار وأينعت، وأخرج بفضل الله ورعايته الزرع شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.

فاللهم أجزل مثوبته، وأعظم أجره، وبيِّض بنا وجهه السَّنيَّة في الدنيا والآخرة آمين.

سادتي أحبابي 

من أقوال سيدي حمزة قدس الله روحه التي نُقشت في قلوبنا وعقولنا، اخترتُ ما يتعلّق بمعرفة الله تعالى لأنها أزكى المطالب وسبب الخَلق والإيجاد مصداقًا لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : "ليعبدون أي ليعرفون" فالمعرفة عند سيدي حمزة لها جانبان : أولًا أن تعرف الله في خَلقه أو ما يُسمِّيه بالمَدخَل، وثانيا : أن يستويَ عندك الجلال والجمال.

فبالنسبة للمدخل قال قدس الله سره في إحدى مذاكراته : طريقتنا طريق الحال، والمحبة والمشاهدات، والتجليات، والمواهب الربانية، والعلوم الاصطفائية، ومن هنا تُطوى جميع الأبواب، وتُشرق شمس الحقيقة، وبعدها يكون لمَن المُلك اليوم لله الواحد القهار، فهذه هي طريقتنا، ومن أراد أن يذوق هذا عليه بالتفاني في خدمتها، والتوجه والإخلاص لمولانا الكريم، وأينما يتوجه فثمَّ وجه الله، فيَعرِف الله في نظرته للخلق وفي سمعه لهم وفي كل الحركات و السكنات، ويعرف أن الظهور ما هو إلا وجه الله تبارك وتعالى، وأنَّ النورانية الإلهية هي المتجليَّة في هاته الأكوان، ومن تحقَّق بهذا فإنه أينما تَنظُر تراه في كل شيء تراه، وإذا تمعَّن الإنسان يجد روحه مع بارئه تعالى، فاعلم أنه لا إله إلا الله، وقد عبَّر عن هذه المعرفة في أقوالَ وحكايات كثيرة أقتصر منها على ما يلي : إذا أراد الله بعبد خيرًا غيَّب عنه عورات الناس وعيوبهم، فلا يرى في الكون والمُكوَّنات إلا الجمال؛ فإن الخَلق هم الباب وهم الحجاب، ويقول أسيادنا : الخلق نوَّار وأنا رعيت فيهم هم الحَجب الأكبر والمدخل فيهم ، ويقول أيضا : لا تكرَه يهودياً ولا نصرانيا وإنم اكره نفسك التي بين جنبيك، فإن أطاعتك أطاعك الكون كلُّه، وإن أساءتك أساءك الكون كلُّه.

ومن أروع حكاياته عن المعرفة التي كان يكررها حكاية السمكتين ومفادها : أن سمكتين تعيشان في البحر، سمكة عارفة والأخرى غير عارفة ، التقتى مرة فدارت بينهما مذاكرة فسألت السمكة غير العارفة السمكة العارفة، إننا نسمعهم كثيرًا يتحدّثون عن البحر، ولا ندري ماذا يعنون به ؟ فيا تُرى كيف هو هذا البحر ؟ فأجابت العارفة قائلةً : ألا تعرفين البحر ؟ قالت : لا، قالت السمكة العارفة : البحر هو الذي نحن فيه.

سادتي أحبابي 

لا يكون الإنسان في البحر إلا إذا كان ذاكرًا لله تعالى، وإذا ترك الذكر خرج من البحر. فعن أبي العباس ابن مسروق : كنت باليمن فرأيتً صيّادًا يصطاد السمك على بعض السواحل وإلى جنبه ابنة له، فكلما اصطاد سمكة فتركها في سلة معه ردَّت الصبيّة السمكة إلى الماء، فالتفت الرجل فلم يرى شيئا فقال لابنته : أي شيء عملتِ بالسمك ؟ قالت : يا أبي ألست سمعتك تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تقع سمكة في شبكة إلا إذا غفَلت عن ذكر الله عز وجل" فلم أحب أن نأكل شيئا غفل عن ذكر الله تعالى، فبكى الرجل ورمى بالصيّادة. والحديث النبوي هو قوله صلى الله عليه وسلم : (مَا صِيدَ صَيْدٌ وَلاَ قُطِعَتْ شَجَرَةٌ إِلَّا بِتَضْيِيعِ التَّسْبِيح).

والجانب الثاني من المعرفة هو أن يستوي عندك الجلال والجمال، فنحن نعرف الله في الجمال ونُنكِرُه في الجلال، أما العارفون الكبار فيعرفونه في الجلال والجمال.

فنسأل الله أن يحفظنا من الجلال لأننا ضِعاف.

وخير ما يمثل هذه المعرفة أولا، ما وقع لسحرة فرعون حين أمر بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتصليبهم في جذوع النخل، حيث قالوا كما جاء في القرآن الكريم وقد كُشف لهم عن نور المعرفة : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } * { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } * { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } * { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ }.

ويُمثَّل لهذا ثانيا بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام في حادث الطائف المؤلم، والأذى الكبير الذي لحقه صلى الله عليه وسلم حيث قال في أروع دعاء يؤكد أنه سيد العارفين وإمامُهم وقدوتُهم : اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك".

سادتي أحبابي

إن حياة سيدي حمزة ممتدّة، ومتواصلة في شيخنا سيدي جمال، وهو الذي كان يقول عنه : سيدي جمال "لي عندي عندو" أي عنده.

والحديث عن سيدي حمزة وأقواله يحتاج إلى مجلدات، وأختم بقصيدته التي يقول فيها :

سرُّنا سرٌّ جديد به يَلين الحديد * فنحن أحباب ربي عن شرعه لا نحيد
شربت كؤوس الحب صدِّق أيها المريد * بدنان مُترعات خَتمُها هو التوحيد
المحبة يا إخواني لكل السوى تُبيد * كل من مات غرامًا فهو في الشرع شهيد
أنا محبوبي بقربي وقولي هذا أكيد * اتركي السوى تراه والعزم منك وطيد
تجلى لقلبي ذاكر ناداه أنا المجيد * غاب عن نفسه وَجدا بُشراه هو السعيد
أنا لله عُبيد وهو الإله الوحيد * برب العزة أشدو وفيه يحلو النشيد
جرح الشوق فؤادي كلما رقَّ التغريد * فشبّت في القلب نار أحشائي لها وَقود
حب الإله فرض له حُقَّ التمجيد * هكذا فلتفنَ فيه ففي الفنا العيش الرغيد

د.عبد الرزاق الترابي

**  **  **
تنبيه : تفريغ فيديو إلى نص مكتوب

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية