آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحركة الصوفية و دورها في مواجهة الغزو الصليبي للمغرب : معركة وادي المخازن نموذجا



إن حروب (الاسترداد) التي شنتها الممالك المسيحية في شبه الجزيرة الإيبيرية على مسلمي الأندلس لم نتنته بسقوط غرناطة وطرد المسلمين منها وهم في أسوإ حالٍ سنة 1492م، بل استمرّت بوتيرة أقوى في بعض اللحظات ممّا كانت عليه الأندلس، مستهدفة الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، حيث المغرب الأقصى، الذي قدّم، في البدء والختام، تضحياتٍ جسامًا؛ من أجل الأندلس واستمرار الإسلام فيها. وقد اتخدت هذه الحروب طابعًا صليبيًّا واضحًا، تجلّى في الدعم القويّ الذي قدّمته الكنيسة الكاثوليكيّة لقادة الحرب وجنودها، ومشاركة جنسيات أوروبيّة مختلفة في معاركها ومصادماتها والشعارات والأهداف المرجوَّة من الحرب (نشر المسيحية).

فكانت معركة وادي المخازن الشهيرة التي غيّرت وجهَة التاريخ في المغرب الإسلامي، ونسفت الأحلام الصليبية في هذه الناحية من العالم الإسلامي.

إن معركة وادي المخازن التي تواجهَ فيها الجيشان، السَّعديُّ والبرتغاليُّ، سنة 986ه/1578م، عكسَت -من جهة- مجموعَ التحدِّيات؛ التي واجهت الدَّولة الجديدة، سواء على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن جهة ثانية شكّلت مناسبة تاريخيَّة سياسية وعسكرية للحسم مع جلِّ هذه التحدِّيات؛ فانتصارُ الجيش السَّعديِّ كان يعني نهاية شبه تامّة للأطماع الأجنبيّة في المغرب، وتوحيدًا للسلطة...

وقد ظهر تحفُّزُ المُتصوِّفة للجهاد والذَّوْدِ على حِمَى الدولة والوطن في عدد من الأعمال النظريّة التي أُلِّفَتْ في هذه الفترة، ومن أبرز هذه الأعمال وأشهرها؛ نظرًا لشهرةِ مُؤلفيها وتأثيرهم البعيد في الحياة الفكرية والروحيّة للمغاربة : كتاب "تنبيه الهِمَم العالية" لمحمد بن يجبش التَّازي (921ه) ويتضمَّن نظمًا ونثرًا يُنبِّهُ الهمَمَ العالية على "الصدقة والانتصار للملَّة الزكيَّة، وقمع الشِّردِمة الطَّاغية، عجَّلَ الله دمارَها، ومَحا ببواتِرِ المُسلمين آثارها"، وفصّل فيه التازيّ الكلام على أحكام الرِّباط والجهاد في البَرٍّ والبَحرِ...، ونبّه فيه مُواطنيه إلى الأخطار المُحدقة بهم، واستعداد العدو للانقضاض عليهم...، ويختم الكتاب بقصيدة طويلة يحضُّ فيها على الجهاد ويستنهض الهمَمَ للثورة.

والشيخ محمد بن يجبش التّازي من كبار شيوخ الصوفيّة في المائة العاشرة، لقيَهُ وتلقّى عنه أبو محمد عبد الله الهبطيّ، وغيره من كبار رجال هذا القرن، يقول عنه ابن عسكر : "فهذا الشيخُ مِمَّن سادَ فأجادَ، واتّكأَ عليه الزمانُ فكان له نعمَ الوسَاد، وقد وقفتُ على تأليف له ألَّفه في الحضِّ على الجهاد... فكان ممَّا ينبغي أن يُتناولَ باليدين، ويُكتب دُون المِدادِ باللُّجَينِ".

أما من الناحية العمليّة، فلم يكتف متصوِّفةُ المغرب في القرن العاشر الهجريّ بالدعوة إلى الجهاد والحضِّ عليه، بل تجاوزوا ذلك إلى الانخراط العمليّ في الأعمال الجهاديّة، والمشاركة في الحملات العسكريّة التي كانت تستهدف تحرير الثغور المحتلّة، ووقفَ تقَدُّمِ النصارى الإيبيريين داخل التراب المغربي، وقد سجَّل العلامة المُؤرخ محمد حَجِّي هذه المنقبةَ لرجال التصوف المغاربة بنوع من الاستغراب، قائلًا : "هناك ظاهرةٌ غريبة... ألا وهي كثرةُ تطوُّع العلماء ومشاركتهم الفعلية في المعارك وحراسة الثغور. فمن الإمام ابن غازي وتلميذه علي بن هرون، اللذين طالما خرجَا في الحركات الجهادية تحت لواء الوطّاسيين، إلى الشيخ أبي المحاسن الفاسيِّ ومحمد ريسون العَلَمِيِّ، اللذين أبليَا البلاءَ الحسنَ في معركة وادي المخازن، إلى محمد بن إبراهيم وعبد الرحمن بن محمد التمنارتيين، اللذين كان لهما حظٌّ وافرٌ في محاصرة المُحتلين وحراسة الثُّغور السُّوسيّة، إلى عبد الواحد بن عاشر وعبد الهادي بن طاهر، اللذين حمَلا السلاح إلى جانب المجاهد العياشي".

دور الحركة الصوفية في نصر معركة وادي المخازن.


فقد شاركت الحركة الصوفية بكثافة في ملحمة وادي المخازن، ولم تقتصر المشاركة على طبقة المريدين والأتباع، بل تعَدَّتهم إلى الشيوخ والرموز. وتشير كتب التَّراجم والمصادر التاريخية الني تحدّثت عن هذه المعركة إلى بعض أخبار هذه الفئة من عسكر المسلمين، وربّما لن أُجانب الصواب إذا قلتُ : إنَّ سِهامَ رجالات الصُّوفيَّة وألويَتُهم في معركة وادي المخازن كانت أقوى من غيرها من فرق الجيش المغربيّ، ورجَّحتْ كَفَّةَ المسلمين على أعدائهم من كَفَرَةِ البرتغال والإسبان، يقول صاحب النُّزهةِ : "هذهِ الغزوَةُ منَ الغَزواتِ العظيمةِ، والوَقائعِ الشَّهيرَةِ، حضَرَها جَمٌّ غَفيرٌ مِن أولِيَاءِ اللهِ تعالى، حتَّى أنَّها أشْبَهُ شَيءٍ بغزوَة بَدر".

ويمكن التمييز بين دورَينِ أساسيَّينِ في إسهام الحركة الصُّوفيّة في هذا الحدث التاريخي : دورٌ تَعبويّ، تجسَّد في مجموعة من الأنشطة والتحركات التي كانت تستهدف تحميس المغاربة، وحثِّهم على الثبات والجهاد قبل المواجهة، ودور عمليّ، تجسَّد في المشاركة الفعليّة لكثير من أعلام الصوفية في المعارك والصِّدام العسكريّ.

ومن أشهر الأبطال الروجيين لمعركة وادي المخازن، الذين أسهموا بقسطٍ وافرٍ في ترجيح كفّة المسلمين على أعدائهم الشيخُ الصوفيُّ أَبو المَحاسن يوسفُ الفاسيُّ، إمام الطريقة الشَّاذليّةِ في البلاد المغربيّة في زمانه، فقبل نشوب الحرب، وبعدما ظهرت أماراتُ المواجهة بين الطرفين، وتسرّب الخوف إلى نفوس المغاربة؛ جرَّاءَ الأخبار السَّيِّئة التي وصلتهم عن قِوام الجيش البرتغالي وجهازه من جهة، واستبطائهم السلطان السَّعدي (عبد المَلك) لنُصرتهم من جهة ثانية، وبعدما بدأ الناس يفكرون في إخلاء الحواضر المُصاقبَةِ للعدوِّ، والفِرارِ من أمامهِ، والتَّحصُّنِ بالجبال، ولا سيَّمَا ساكنة مدينة القصر الكبير المتاخمة لميدان المعركة، أمر أبو المَحاسن أحدَ الرِّجالِ من أصحابه بالنداء في الناس "أنِ الزَمُوا بلادَكُم وَدُوْرَكُم؛ فإنَّ عظيم النصارَى مسجونٌ حيثُ هو حتَّى يجيءَ السُّلطانُ من مرّاكشَ، والنَّصارى غنيمةُ المسلمين، ومَن شاء فَلْيُعْطِ خمسين أوقية للنصرانيّوكان لهذا النداء وقعٌ حاسمٌ على عامَّة الناس؛ نظرًا لبِشارة النَّصر التي تضمّنها، فهدأت نفوسُ الناس، ولزموا مدينتهم إلى أن قضى الله أمره.

ومن الشيوخ وأعلام التصوف الآخرين الذين شاركوا في المعركة الشيخ محمد بن علي بن ريسون.

وممّأ يُنسب بطريق غير مباشرة لمعركة وادي المخازن، ازدهار الحركة الصوفية، وتجدُّر شرعيَّتها، فقد ازداد الالتفاف حول أقطاب التصوف، وزاد الخضوعُ لهم، إذ عُدَّ نَصْرُ واذي المخازن من كراماتهم، وتأييدًا ربَّانيًّا لهُم، ودليلًا على صدق دعواهم، وتجسَّد ذلك في انتشار الزَّوايا في مختلف الحواضر والبوادي المغربية، وأمسى من النّادر والعزيز العثورُ على مغربيّ لا يَدينُ بالولاء لشيخ مُعيَّن، أو زاوية محدّدة، الأمر الأمر الذي هيّأ الزوايا والطرق الصوفيّة عُمومًا للقيام بأدوار اجتماعيّة وثقافيّة مهمَّة.

(بتصرف)

جبرون امحمد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية