هذا آخر الباب التاسع عشر .
وحاصلها : أن العارفين ربما دلّهم الأدب على ترك الطلب اكتفاء بعلم اللّه ، إذ لا يذكر إلا الغافل ، ولا ينبه إلا الساهي ، وتعالى اللّه عن الأمرين علوّا كبيرا ، فإذا نزلت بهم فاقة أو شدة لم يسألوا رفعها ، بل فرحوا بها ، وجعلوها مواسم وأعيادا لما يجدون فيها من المزيد ، وما يهب على قلوبهم من نسيم التوحيد والتغريد وهي المواهب الربانية ، والعلوم اللدنية ، فتحققوا بأوصافهم ، وأمدهم بأوصافه ، فصاروا في الظاهر عبيدا ، وفي الباطن أحرارا ، في الظاهر فقراء ضعفاء أذلاء ، وفي الباطن أغنياء أقوياء أعزاء ، وهذه هي الكرامة العظمى ، دون الكرامة الحسية ، كما أشار إلى ذلك في أول الباب الموفى عشرين فقال رضي اللّه عنه :
(رُبَّمَا رُزِقَ الْكَرَامَةَ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ لَهُ الاسْتِقَامَةُ)
الكرامة الحسية هي خرق الحس العادى كالمشى على الماء والطيران في الهواء وطي الأرض ونبع الماء وجلب الطعام والإطلاع على المغنيات وغير ذلك من خوارق العادات، والكرامة المعنوية هي استقامة العبد مع ربه في الظاهر والباطن،وكشف الحجاب عن قلبه حتى عرف مولاه، والظفر بنفسه ومخالفة هواه، وقوة يقينه وسكونه وطمأنينته بالله، والمعتبر عند المحققين هي هذه الكرامة، وأما الكرامة الحسية فلا يطلبونها ولا يلتفتون إليها، إذ قد تظهر على يد من لم تكمل استقامته، بل قد تظهر على يد من لا استقامة له أصلاً كالسحرة والكهان، وقد تظهر على أيدي الرهبان وليست بكرامة إنما هي استدراج، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه: "إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بمزيد الإيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الإقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب وذو خطأ في العلم والعمل بالصواب، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضا فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع الرضا. وكل كرامة لا يصحبها الرضا عن الله ومن الله فصاحبها مستدرج مغرور أو ناقص أو هالك مثبور".
قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه:" ليس الشأن من تطوى له الأرض فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان إنما الشأن من تطوى له صفات نفسه فإذا هو عند ربه" ، والكرامة الحقيقية هي الاستقامة على الدين وحصول كمال اليقين وأما خوارق العادات الحسية فإن صحبتها الاستقامة ظاهراً وباطناً وجب تعظيم صاحبها لأنه شاهدة له بالكمال مما هو فيه، وإن لم تصحبها استقامة فلا عبرة بها، والغالب أن أهل الباطن كرامتهم باطنية ككشف الحجب ومزيد الإيمان ومعرفة الشهود والعيان وكذلك عقوبة من آذاهم جلها باطية لا يتفطنون لها كقساوة القلب والإنهماك في الذنوب والغفلة عن الله والبعد عن حضرته ولكن لا يشعرون، وهي أعظم من العقوبة في الحس.
والحاصل أن أهل الاستقامة الظاهرية كرامتهم ظاهرية حسية وأهل الاستقامة الباطنية كرامتهم باطنية معنوية أهل الظاهر من آذاهم عوقب في الظاهر وأهل الباطن من آذاهم عوقب في الباطن، وقد لا يعاقب لأنهم رحمة، كل من قرب منهم شملته الرحمة كان قربه تسليماً أو انكاراً، هم قوم لا يشقى جليسهم، على قدم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وكل ولي أراد الله تعالى أن ينتفع الناس على يده لا يعاجل بالعقوبة من آذاه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خيره ملك الجبال فحلم صلى الله عليه وسلم وعفا وقال لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول:" لا إله إلا الله" والله تعالى أعلم.
وأعظم الكارمة الفهم عن الله والرضى بقضاء الله وترك التدبير والاختيار مع الله وإقامة العبد حيث إقامه الله كما أبان ذلك بقوله :
(مِنْ عَلاماتِ إقامَةِ الحَقِّ لَكَ في الشَّيْءِ إدامَتُهُ إيّاكَ فيهِ مَعَ حُصولِ النَتائِجِ)
قلت : إذا أقام الحق تعالى عبده في حالة لا يستقبحها الشرع ، ولا يذمها سليم الطبع ، فلا ينبغي له الانتقال عنها بنفسه ، حتى يكون الحق تعالى الذي أدخله فيها ، هو الذي يتولى إخراجه منها ،قال تعالى : {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [ الإسراء : 80 ] ، فالمدخل الصدق أن تدخل في الشيء باللّه لا بنفسك ، والمخرج الصدق أن تخرج منه باللّه لا بنفسك ، فإذا أقامك الحق تعالى في الأسباب فلا تخرج منها بنفسك فتتعب ، فامكث حتى يخرجك الحق تعالى بإشارة صريحة من شيخك ، أو من هاتف من عند ربك ، وقد تقدم هذا في أول الكتاب.
ومن علامة إقامة اللّه تعالى لك في ذلك الشيء الذي أنت فيه إدامة الحق إياك في ذلك الشيء مع حصول النتائج ، وسلامة الدين ، والمراد بالنتائج ما يترتب عليه من إعطاء حقه الواجب والمستحب ، كأداء الزكاة ، وإطعام الجائع ، وستر العريان ، وإغاثة الملهوف ، وغير ذلك من أنواع الإحسان ، وإذا أقامه الحق تعالى في نشر العلم الظاهر فعلامة إقامة الحق فيه تعليمه للّه ، ونفع عباد اللّه ، والزهد في الدنيا ، والرغبة فيما عند اللّه ، والتواضع والصبر على جفاء المتعلمين ،
وهكذا سائر الحرف إذا كان فيها على المنهج الشرعي ، فلا ينتقل عنها بنفسه ، وإذا أقامك الحق تعالى في التجريد فالزم الباب ، وتحلّ بالآداب حتى يفتح لك الباب ، فعلامة إقامته إياك فيه حصول نتائجه ، وهي الترقي في الأحوال والمقامات ، حتى تبلغ النهايات ، والمقامات هي التوبة والتقوى والاستقامة ، والزهد والورع والخوف ، والرجاء والرضا والتسليم ، والإخلاص والصدق والطمأنينة ، والمراقبة والمشاهدة والمعرفة ، وكل مقام له علم وعمل وحال ، فأوله علم وثانيه عمل ، وثالثه حال ثم مقام ، فإذا بلغ إلى مقام المعرفة وتمكن فيها انقطعت المقامات .
قال بعضهم : في بحر التوحيد غاصت الأحوال وانطمست المقامات قال تعالى : "وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى" [ النجم : 42 ] . فحينئذ يغمس في بحر الإحسان ، فإذا عبر من بساط إحسان اللّه له لم يصمت إذا أساء.