آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شرح منازل السائرين عبد الرزاق القاشاني -29


باب الفرار

قال الله تعالى : {فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ}[الذاريات:50]

قال الشيخ رضي الله عنه : 

(الفِرَارُ هُوَ الْهَرَبُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَى مَنْ لَمْ يَزَلْ)


لأن هذا االفرار بالحقيقة هو الهرب من الغير إلى الحقِّ؛ والغير في شهوده لا شيءٌ محضٌ، ففسَّره ب"مَا لَمْ يَكُنْ"، وذلك هو المسمىَّ بالخَلق.

وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ : 

(فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا، وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ حَذَرًا وَعَزْمًا، وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً)


أي فرار "العامّة" من الجهالة وطريق الجهّال إلى متابعة العلماء الراسخين في الشريعة؛ وهم الذين رسخت آثارُ علومهم في جوارحهم؛ فلا يتخلَّفُ عملُهم عن علمهم. وذلك لرسوخ هيئة العلم فيهم، لقوّة يقينهم، فيتبعهم عقدا - أي اعتقادًا؛ والعقدُ والعقيدةُ والاعتقادُ واحدٌ - أي يعتقد عقيدتهم باستفادة العلم منهم، ويسعى سعيهم في عملهم.

ومن الكسل اللازم لطبيعة النفس إلى التأهُّب للسعي في العمل، حذرًا شديدًا من الكسل، بجدٍّ بليغ لا يعتوره فتور، وعزم جزم مصمّم لا يقبل نقضًا ولا وهنًا.

و"التشمير" كناية عن الجدِّ والمبالغة في النهضة والقيام بالأمر. يقال : "شَمَّرَ عَنْ سَاقِه" و"شمَّرَ ثوبَه" إذا تأهَّب للسعي وانتهض له مُجدًّا.

و"من الضَّيقِ" أي ضيق الصدر - بهمِّ الرزق له ولعياله، والتمحُّل في السعي والطلب - إلى سعة الصدر، لقوّة اليقين والثقة بالله في التكفل برزقه - لقوله عليه السلام : (مَن طلبَ العِلم تكفَّلَ الله برزقه) - وصدق الرجاء وقوته وحسن الظن بالله في إيصال الرزق إليه من حيث لا يحتسب، لقوله تعالى : {‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2-3] وقوله عليه السلام : (أَبَى اللهُ أَنْ يَرْزُقَ المُؤمِن إلَّا مِنْ حيثُ لَا يَحْتَسِب).

( وَفِرَارُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الشُّهُودِ، وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ، وَمِنَ الْحُظُوظِ إِلَى التَّجْرِيدِ.)


"من الخبر" أي إخبار الكتاب والسنَّة عمّا غاب عنهم، إلى العيان بالتجلّي الشهودي؛ فإنهم أرباب الأحوال، يتمسّكون بمواجيد القلوب وإجابة واردات الغيوب، ويبنون عملَهم على الأخد عن الله -لا على ما رُسمَ لهم-.

"ومن الرسوم" أي رسوم الشريعة من أحكام العلم والعمل "إلى الأُصول" أي التعرُّفات الإلهيَّة التي أُخدت الرسومُ منها، ووُضعت لأجلها. ولهذا فسَّر ابن عبّاس رضي الله عنه { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } - في قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56] - بقوله : "إلّا ليعرفون". وهو أفضل المفسِّرين وترجمان القرآن. وجاء في الحديث الربَّاني : (كنت كنزا مخفيّا، فأردتُ أن أُعْرَف، فَخلقتُ الخَلقَ وتَحبَّبْتُ إلأيهِمْ بالنِّعَمِ حَتَّى عَرَفونِي).

ولا يقبل منهم عملٌ إلأ ما أثبته التعرّفات الإلهيّة بالتجلّيات، فتحكم عليهم التجلياتُ بأعمال قلبيّة وسريّة؛ وهي نصيبُهم من السُنَّة، ولا تحكم عليهم بترك السنّة، ولكن بالنقل من سنَّةٍ إلى سنّة أعلى؛ ومن عزيمة إلى عزيمة أقوى. وذلك هو عمل أهل العرفان من أرباب الأحوال المتوسطين.

و"من الحظوظ" أي أغراض النفس في حقِّ أرباب الأعمال، وشطحات التوحيد في حقِّ أرباب الأحوال - وهي معارف مشوبة بشيء من رعونات النفس - إلى التجريد منها، والتخلُّص من آفاتها؛ فإنها عللٌ وهفواتٌ.

(وَفِرَارُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ مِمَّا دُونَ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ مِنْ شُهُودِ الْفِرَارِ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ الْفِرَارُ مِنْ الْفِرَارِ إِلَى الحَقِّ).


الأول ظاهر، لكن فيه شهود مّا للخَلق؛ فإنه يشهد أنه فرَّ من الخَلق إلى الحقِّ، والشاهدُ خلقٌ يَشهدُ الخَلقَ الذي يفرُّ منه، فيفرُّ من ذلك الشهود - أعني شهودَ الفرار من الخَلق إلى الحقِّ.

ثم عرض تلوينٌ بأنه هو الذي فرَّ من ذلك الشهود : ففيه بقيَّةٌ من أنانيَّته. فيفرُّ بالله من تلك الأنانيَّة إلى الله؛ فيرتفعُ النسب بالتفريد المحض وهو أن لا فعل ولا وجود إلّا للحقِّ. وذلك محض الموهبة بمحو الأنانيّة، ليس فيه رائحةُ الكسب والتعمُّل - والله الباقي.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية