آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -63



كما أبان ذلك بقوله :

(مَنْ عَبَّرَ مِنْ بِسَاطِ إِحْسَانِهِ أَصْمَتَتْهُ الإِسَاءَةُ، وَمَنْ عَبَّرَ مِنْ بِسَاطِ أِحْسَانِ اللهِ إِلَيْهِ لَمْ يَصْمُتْ إِذَا أَسَاءَ)


قلت : أهل التعبير، وهم أهل التذكير، الذين يُذكِّرون عباد الله، ويعبرون عما منحهم الله به من العلوم والمواهب والفتوحات والكرامات، على قسمين : علماء وعارفون، أو تقول : أهل الحجاب وأهل الفتح.

فأهل الحجاب يعبرون من بساط إحسان أنفسهم، فيقولون فعلنا كذا، ورأينا كذا، وفتح علينا في كذا، وافعلوا أيها الناس كذا، واتركوا كذا، فإذا وقعوا في زلة أو هفوة سكتوا حياء من الله وخوفاً أن يأمروا بما لم يفعلوا، لأنهم باقون مع نفوسهم محجوبون عن ربهم، فإذا فعلوا طاعة فرحوا بها واعتمدوا عليها، وإذا فعلوا زلة حزنوا وجزعوا وسقط في أيديهم. فلما عبروا من بساط إحسان نفوسهم أصمتتهم الإساءة.

وأهل الفتح من العارفين يعبرون من بساط إحسان الحق غائبين عن شهود الخلق، فانون عن أنفسهم، باقون بربهم، فهؤلاء إذا عبروا عَمَّا منحهم الله من المعارف والأسرار والعلوم والأنوار والكرامات والفتوحات والمواهب، وذَكَّروا فأمروا ونهوا، دام تعبيرهم ونفع تذكيرهم، فإذا أساءوا لم تصمتهم إساءتهم، لأن إساءتهم من أنفسهم، وتعبيرهم من بساط إحسان الله إليهم، وإحسانه لا يُكَدِّره شيء.

وقولنا : من أنفسهم، أعني أدباً فقط إذ هم لا يشهدون إلَّا تصريف الحق فيهم، فلذلك لم تصمتهم إساءتهم، لأنهم مغموسون في بحر المنَّة لا يشهدون في الكون سواه، وأيضاً من عبر من بساط نفسه نادته مساويه : أسكت، أما تذكر فعلك القبيح ووصفك الذميم، فيسكت خجلاً.

ومن عبر من بساط إحسان الله غابت عنه مساويه لغيبته في محاسن مولاه، فلا يشهد إلا أياه، فإذا أراد أن يعبر سبق نور معرفته إلى قلوب عباده، فيسري فيهم التعبير ويأخذ بقلوبهم التذكير، كما أبان ذلك بقوله :

(تَسْبِقُ أَنْوَارُ الْحُكَمَاءِ أَقْوَالَهُمْ ، فَحَيْثُ صَارَ التَّنْوِيرُ وَصَلَ التَّعْبِيرُ)


قلت : الحكماء : هم العارفون ، بالله الذين يتكلمون بالله ويصمتون بالله ، غائبون عن أنفسهم يشهدون ما من الله إلى الله ، فإذا أرادوا أن يعبروا عما منحهم مولاهم من العلوم والمعارف سبق نور شهودهم إلى القلوب المستمعة فتسري فيهم على قدر صدقهم.

فمنهم من يدخل النور سويداء قلبه ، ومنهم من يقف النور على ظاهر قلبه ، ومنهم من يشرق النور على طرف قلبه ، فإذا عبر العارف عن المقامات والأحوال وصل التعبير على قدر سريان النور ، فمن وصل النور إلى سويداء قلبه نهض ساعته إلى ربه، ومن وصل إلى ظاهر قلبه خشع وخضع وعزم على البر والتقوى ، ومن وصل إلى طرف قلبه عرف الحق وصدق ، فحيثما صار التنوير وصل التعبير. 

وأعرف الناس بالله أشدهم له خشية ، وفيهم قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. وسئل مالك عن الحكمة فقال: ما زهد عبد واتقى إلا أنطقه الله بالحكمة، ثم قال من أراد أن يفتح الله عين قلبه فليكن عمله في السر أكثر من عمله في العلانية، لأن عمل السر منبع الإخلاص، والإخلاص منبع الحكمة، وسئل مرة أخرى عن الحكمة أيضاً فقال : نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن من فسحة الملك.
فأهل التنوير هم الحكماء وهم العارفون بالله. وللّه در القائل في وصفهم حيث قال : 

هينون لينون أيسار بنو يسر *** سوّاس مكرمة أبناء أيسار
لا ينطقون بغير الحق إن نطقوا *** ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري

وقولنا في وصفهم يشهدون ما من الله إلى الله ، يعني أنهم غائبون إلاّ تصريف الحق في مظاهر أنواره ، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الناس على ثلاثة عبد يشهد ما منه إلى الله ، وعبد يشهد ما من الله إليه ، وعبد يشهد ما من الله إلى الله ، الأول ذو حزن وأشجان ، والثاني ذو فرح وامتنان ، والثالث لم يشغله عن الله خوف نار ولا مثوى جنان ، الأول ذو كد وتكليف ، والثاني ذو عناية وتعريف ، والثالث مشاهد للمولى اللطيف.

ثم قال : "وقيل العمل مع شهود المنة خير من كثيره مع رؤية التقصير من النفس" مختصراً .

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية